عام

دروسٌ في حصَّة الهدهد

تفقَّد سليمان – عليه السلام- الطير، فافتقد الهدهد، ولأنَّ النظام صارم، والعمل قائم؛ هدَّدَ وتوعَّد، وشدَّدَ وأكَّد، ﴿ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾؛ فالتخاذلُ في العمل مدعاةٌ إلى الخلَل، والتساهل في الإدارة يُذْهِبُ الهيبةَ والجدارة.
ما كان لطائرٍ مسكينٍ أن يختبئ أو يَنْدَس ممن سُخِّرت له جنود الأرض بما فيها الجنُّ والإنس، ولأن سليمان كان ذا سطوة وهيبه؛ حضر الهدهد ولم تَطُل الغَيْبة، بل وأحضر معه العذر، قبل أن يٌنْفَدَ من سليمان الصبر، وحطَّ أمام الجمع المحتشد، دون أن يتلبَّسَهُ خوفٌ أو يرتعِد؛ فالخبر الذي جاء به يقينٌ جَلَلْ، ولا بُدَّ له من المعالجة على عَجَل، {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سبأ بنبأ يَقِينٍ}. قصَّ قصَّته، وأخذ من الوقت حصَّته. وأطرق سليمان برهةً ليصدر القرار، ويقضي في أمر الهدهد أمام الجيش الجرَّار، فالتفت إليه آمرًا إيَّاه أن يحمل إلى بلقيس الرسالة، وقد كان بالإمكان أن يدعه ليستريح، ويوكل الأمر إلى جنيٍّ، أو إلى الذي عنده علمٌ من الكتاب، أو حتى إلى الريح؛ لكنه علم منه
الصدق وأراد أن يكافئة، فأبدى فيه الثقة أمام الجمع، ويالها من مكافأة؛ أسلوبٌ قياديٌّ يعتمد على التعزيز، وندرةٌ إداريةٌ في رفع الهمَّة والتحفيز.
لا غرابة في أن يتجسَّد حسن القيادة والإدارة في نبيٍّ آتاه الله الملك، وعلَّمه منطق كل شيء، وسخَّر له الرِّيح بدلًا من الفُلْك. لكنَّ العجَبَ كلَّ العجب في الهدهد الذي فاق في تحمل المسؤولية كل الأقران؛ فاستحق أن يُخلَّد ذكره بالقرآن. لقد أعطى هذا الطائر دروسًا عِدَّة في موقفٍ واحد، دروسًا في الإحساس بالمسؤولية، في الإخلاص وأداء الأمانة، في استشعار الرقابة الإلهية قبل البَشريَّة، دروسًا في عدم المراوغة أو الخيانة، ودروسًا في الصدق وعدم اختلاق الأعذار، وفي عدم التغيُّب عن العمل دونما سببٍ يستحقُّ التوضيح، عدا أن من حقه أن يستريح. وأظنه قد أعطى أعظم درسٍ لأولئك الذين يجيدون قول: (هذا اختصاصي، وهذا اختصاص غيري).
بمثل هذه الدروس وغيرها – مما غفل عنه التأمل – لا بالصور المدمجة، والشعارات المبهرجة، نستطيع أن ننشر مفهوم الثقافة المؤسسية الذي ننشده من أجل تحقيق أكمل الأهداف والغايات، والوصول إلى أفضل النتائج.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى