مقدمة: لماذا الإدارة الفقهية للحج؟
قد يبدو العنوان جديداً وغير مألوف، لكن الذي دفعني لكتابة ذلك هو الإفادة بخلاصة تجربتي طيلة فترة عملي في الحج منذ تعييني عضوا بمجلس إدارة مؤسسة مطوفي حجاج جنوب آسيا. حيث لمست عن قرب كيف يؤثر الفقه في حركة الحجاج، وكيف يمكن تسخير هذا البعد الفقهي لتسهيل إدارة الحج بذكاء.
إن الحج يعد من أكبر التجمعات البشرية السنوية في العالم، حيث يجتمع الملايين من المسلمين في أماكن محددة خلال أوقات زمنية ضيقة، مما يجعل تنظيمه من أعقد عمليات إدارة الحشود عالميًا، وهنا يتجلى بوضوح كيف أن بلادنا بقيادتها الرشيدة تسخر كل طاقاتها لإنجاح الحج والتسهيل على ضيوف الرحمن.
إن الحج ليس مجرد حشد بشري تقليدي يمكن التعامل معه بمجرد الأساليب اللوجستية المعتادة، بل هو شعيرة تعبدية تحكمها ضوابط دينية وفقهية تحدد زمان ومكان وأسلوب تحركات الحجاج.
إن المحرك الجذري العميق لحركة الحجاج هو البعد الفقهي، إذ يتحرك كل حاج وفق المذهب الفقهي الذي يؤمن به ويدين لله به. ومن هنا، فإن الإدارة الفقهية للحج تبرز كأداة إستراتيجية قادرة على تسهيل إدارة المناسك وضبط حركة الحجيج بطرق أكثر كفاءة، وبما يحقق مستهدفات رؤية المملكة 2030 في تطوير خدمات الحج.
—
تجارب ناجحة في استثمار الفقه لتسهيل إدارة الحج:
1. ورشة عمل بين مشايخ الحجاج والمسؤولين الأمنيين:
في إحدى السنوات، نظمت ورشة عمل جمعت بين مشايخ الحجاج وقادة إدارة الحشود، بهدف تقريب وجهات النظر بما يتناسب مع الواقع الميداني. وتم خلالها استعراض مشاهد الكثافات البشرية الهائلة، مما ساعد المشايخ على تفهّم التحديات الأمنية والتنظيمية، واقتنعوا بضرورة تبني الآراء الفقهية الميسرة، ولكنهم قالوا: نحن اقتنعنا ونحتاج أن تقنعوا مشايخنا قي بلداننا؛ لأننا إنما نتحرك هنا وفق فتواهم.
2. الإمام أبو حنيفة هو المسؤول!
عندما حضرت اجتماعا رفيع المستوى يضم قيادات أمنية وغيرها معنية بالحج لمناقشة خطط إدارة الحشود، وجه إليَّ أحد المسؤولين سؤاله: لماذا حجاجكم لا يوجد عندهم نسب مُرضية في الالتزام بالخطط المقررة، وعددكم يفوق النصف مليون؟! فأجبته وقلت له: إني أعلم رجلاً هو المسؤول الأول عن كل ذلك! إنه الإمام أبو حنيفة رحمه الله، فتعجب من ذلك، فقلت له: نعم؛ لأن حجاجنا يتبعون مذهبه ويرونه حقاً، ومذهبهم يلزمهم بالبقاء في مزدلفة إلى الفجر ولا يمكنهم المغادرة قبل ذلك لأنهم يعتقدون أن ذلك يقدح في صحة نسكهم، لأنهم إنما يحجون مرة واحدة في عمرهم فلن يتنازلوا عن أداء نسكهم وفق ما يعتقدون أنه الصواب.
3. التفويج الفقهي: حل ذكي لتقليل الزحام:
اقترحت في أحد الاجتماعات مع الجهات المختصة نظام التفويج الفقهي، بحيث يتم توزيع الحجاج وفق مذاهبهم الفقهية بطريقة تضمن تفكيك التكدس تدريجيًا:
فحجاج المالكية يتم توجيههم إلى أطراف مزدلفة ليتمكنوا من المغادرة مبكرًا.
وحجاج الشافعية والحنابلة يتمركزون في الوسط وينصرفون بعد منتصف الليل.
وحجاج الأحناف يبقون حتى الفجر وفقًا لمذهبهم.
فنكون قد استثمرنا التنوع الفقهي في تفكيك الحشود وتخفيف الضغط عن مزدلفة تدريجيا وتفويج الحجيج إلى منى ثم الحرم بشكل تعاقبي، وهذا ما أسميه (الفقه التشغيلي) وأعني به استثمار التنوع الفقهي في المذاهب لتكوين خطط عملية لتسهيل إدارة الحج. وقد وثقت هذه الفكرة في مقال سابق في إحدى الصحف، ولي كتاب ألفته في فقه المناسك اسمه (رحلة الحج) عرضت فيه كثيرا من الفرص الفقهية التي يمكن استثمارها لتيسير إدارة الحج، سواء في مشعر عرفات، أو مزدلفة، أو رمي الجمرات أو ما يتعلق بالحرم والطواف.
4. تغيير فتوى رمي الجمرات بقرار واحد:
في موقف آخر، في منى التقيت مع مسؤول رفيع في إحدى بعثات الحج الكبرى التي تضم ما يقارب 200 ألف حاج، فشرحت له كيفية استثمار التنوع الفقهي لتسهيل التفويج. بمجرد أن اقتنع المسؤول بضرورة الأخذ برأي فقهي يجيز رمي الجمرات بعد الفجر، أرسل توجيهًا إلى بعثته عبر رسالة واحدة، فخرج مئات الآلاف من الحجاج من مخيماتهم بعد الفجر، مما خفف الزحام بشكل كبير.
هذه التجربة تؤكد أن إقناع صانع قرار واحد إقناعاً علمياً دينياً فقهياً يمكن أن يؤدي إلى تحولات كبرى في إدارة الحج، ويثبت أن الحلول الفقهية التشغيلية يجب أن تكون جزءًا من التخطيط الاستراتيجي.
—
نحو حلول تشغيلية قائمة على الفقه:
1. إنشاء لجنة متخصصة في الإدارة الفقهية للحج:
يُنشأ مركز أبحاث فقهي تشغيلي يعمل على دراسة المناسك وتقديم توصيات تشغيلية، بالتعاون مع الجهات المعنية. ويشترط في الأعضاء أن يكونوا من المتخصصين في فقه المناسك في كل مذهب ممن سبق له الحج ومارسه وعايشه ليكون على إحساس بالواقع.
2. توعية مشايخ الحج بالواقع الميداني:
من خلال برامج تدريبية قبل موسم الحج، لتعريف العلماء والمفتين بالتحديات اللوجستية، وإيجاد توافق بين الفقه ومتطلبات إدارة الحشود وخطط الحج.
3. إعداد دليل إرشادي فقهي:
يتم تطوير دليل معتمد بالتنسيق مع وزارة الحج والجهات التنظيمية، يوضح الحلول الفقهية التي يمكن العمل بها في ظروف الزحام وغيرها.
4. دمج الإدارة الفقهية في خطط الحج:
تصبح الحلول الفقهية جزءًا من خطط الحج، بحيث يتم استثمار اختلاف المذاهب في توزيع الحجاج وتخفيف الزحام.
—
دور الإدارة الفقهية في تحقيق رؤية 2030:
1. تحقيق الانسيابية في أداء المناسك:
رؤية المملكة 2030 تهدف إلى تسهيل أداء المناسك وزيادة عدد الحجاج بشكل مستدام. ومن خلال الإدارة الفقهية الذكية، يمكن تحقيق انسيابية أفضل في حركة الحجيج، مما يعزز جودة الخدمات المقدمة.
2. تعزيز تجربة الحاج دون المساس بثوابته الدينية:
الهدف هو أن يشعر الحاج بأنه يؤدي مناسكه وفق معتقداته الفقهية، وفي الوقت نفسه، يسهم في تحقيق الأمن والانسيابية داخل المشاعر المقدسة.
3. تقليل الضغط على البنية التحتية:
باستخدام التفويج الفقهي، يمكن تخفيف الضغط على مواقع المشاعر، وتقليل الحاجة إلى توسعات مكلفة، مما يحقق كفاءة تشغيلية أعلى.
—
الخاتمة: الإدارة الفقهية ركيزة أساسية لتطوير الحج:
الإدارة الفقهية للحج ليست مجرد تنظير فقهي، بل أداة تشغيلية ذكية، يمكن من خلالها تحقيق انسيابية المناسك، وتحسين تجربة الحاج، وتسهيل إدارة الحشود بطرق فعالة وغير مكلفة.
إن دمج الفهم العميق للفقه الإسلامي مع الخبرة الإدارية سيمكن المملكة من تقديم نموذج عالمي في إدارة الحشود الدينية، ويحقق أحد الأهداف الكبرى لرؤية 2030، وهو أن يصبح الحج تجربة أكثر يسرًا وسلاسة، دون أن يشعر الحجاج بأنهم مجبرون على مخالفة تعاليمهم الفقهية.
إن استثمار هذا البعد الفقهي الاستراتيجي سيسهم في تعزيز مكانة المملكة عالميًا باعتبارها رائدة في تنظيم الحج والعمرة، وسيضع أسسًا قوية لمواسم حج أكثر تنظيمًا وانسيابية في المستقبل.
• أستاذ الفقه المساعد بجامعة الملك عبد العزيز
تنفيذي في شركة ضيوف البيت لخدمات الحجاج