هناك عدة معانٍ لمفردة (هَبَل)، وحين يكون الحديث عن (الهبل والاستهبال) فلا بد أن يكون للموضوع علاقة بالعقل، لأنه مصدر اتخاذ القرار. ذهاب العقل له صور مختلفة، منها الجنون، أو الخرف، أو الانفصام، أو تعاطي المخدرات… إلخ. بعض الأفراد (أو المجتمعات) يختار التخلي عن عقله طواعية تحت تأثير عوامل أخرى لها القدرة على تغيير الأفكار.
التأثير الفكري له أهداف عدة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
• استخدام الأخبار والمعلومات للتأثير على الرأي العام.
• توجيه الناس نحو مواقف معينة (دينية – سياسية – رياضية… إلخ).
• الدخول في نقاشات ومناظرات بهدف تبديل وجهات النظر أو إقناع الآخرين بفكرة ما.
في الماضي، لم تكن هناك أدوات تكشف التأثير الإعلامي (الخداع الإعلامي)، لأن مصدر البث للمجتمع كان واحدًا (وسائل الإعلام المحلية فقط من تلفزيون وصحافة وإذاعة). أما الآن، فقد تعددت المصادر بين المسموع والمرئي والمقروء، مما يسهل (لمن أراد) تمحيص الحقائق، ومع ذلك لا يزال البعض يستخدم رأسه “كوعاء فقط”! ليجمع نفايات الأخبار دون أن يستخدم ما يسمى بالعقل لتحليل أو تدقيق ما يسمع ويقرأ ويرى!
في الفترة الأخيرة، كانت الأخبار العالمية أكثر من ساخنة، مما جعل البيئة خصبة لقلب الحقائق والتلاعب بالعقل. من تلك الأخبار على سبيل المثال: خبر استثمار السعودية ما مجموعه 600 مليار دولار في أمريكا. بعد الإعلان عن ذلك الخبر، تسابقت قنوات إعلامية لم يعجبها القرار “السيادي” السعودي، ففتحت “بالوعات” تفوح منها رائحة الكراهية لمكانة السعودية العالمية والحسد لقوتها الاقتصادية! وبلغ الكذب مداه بعدما ردد الإعلام المضلل عبر القنوات والمنصات المختلفة أكذوبة أن السعودية تدفع “الجزية” لأمريكا!
لم يكتفِ الإعلام المضلل بالكذب، بل أخفى حقيقة تلك الأموال، وأنها امتداد لاستثمارات قائمة حاليًا في شركات كبرى ومجالات مختلفة، مثل:
• شركات الذكاء الاصطناعي والطاقة النووية.
• سوق الأسهم والسندات.
• الشركات العاملة في مجال الفضاء.
• الصناعات العسكرية.
كما أن الإعلام المضلل لم يتحدث عن الفوائد الاقتصادية التي ستجنيها السعودية من هذا الاستثمار، مثل:
• تنويع الاقتصاد وعلاقته بأهداف رؤية 2030.
• نقل التكنولوجيا والمعرفة (الاستثمار في الشركات الأمريكية المتقدمة يمكن السعودية من الاستفادة من التقنيات الحديثة، مثل بعض مكونات الذكاء الاصطناعي التي يُمنع تصديرها خارج أمريكا).
• العوائد المالية المستدامة، التي تدعم الاقتصاد السعودي وتمول المشاريع التنموية المستقبلية.
• تعزيز العلاقات الاستراتيجية بين السعودية وأمريكا.
كل هذه العوامل تجاهلها الإعلام المضلل، وفي ذات الوقت، تغاضى عن حقيقة أن ثلاث شركات عالمية (أوبن إي آي – سوفت بنك – أوراكل) ستدفع 500 مليار دولار لأمريكا لإنشاء بنية تحتية للذكاء الاصطناعي ضمن مشروع (STARGATE). *فهل ستدفع تلك الشركات الجزية أيضا؟*
المضحك أن بعض المحللين في قنوات معينة، وبأسلوب هدفه تجييش الشعوب العربية ضد السعودية، يطرحون تساؤلات مثل:
• لماذا لم توجه السعودية تلك الاستثمارات إلى البلاد العربية؟
• ما الذي يمنع الاستثمار بين الدول العربية؟
• أين الأخوة العربية والإسلامية؟
وهنا أعود لعنوان المقال وعلاقته بالمحتوى، وأقول:
• من “الهبل” أن تبعثر أموالك في مشاريع غير مربحة، لينتج عنها فوائد “بالهبل” لصندوق النقد الدولي!
• ومن “الاستهبال” أن تغضب لأنني لم أعطك أموالي لتستثمرها (عفوًا، لتبددها)!
هناك خبر آخر لا يقل “هبلاً” عن سابقه، فبعد توقف القتال (لفترة) في قطاع غزة، بعد أكثر من 400 يوم من القصف والتدمير والتهجير، شاهدنا قنوات وزبانيّتها يتلاعبون بمشاعر العرب والمسلمين، ويصورون تلك المغامرة الكارثية وما نتج عنها من هلاك ودمار على أنه “انتصار”! بينما كان أهل غزة (شيوخًا ونساءً وأطفالًا) يسيرون عشرات الكيلومترات (على أقدامهم) متجهين إلى شمال القطاع (المدمر تمامًا)، خرج من يحاول تصوير ذلك بأنه “عودة المنتصرين” التي تغيظ الصهاينة! بلغ “الهبل” ذروته حين تصور قناة “الحقيرة” تسليم الأسيرات الصهيونيات، على أنه “دليل صمود وكبرياء المقاومة”! ثم يظهر بعض الأشاوس الملثمين وبيدهم كاميرات لتوثيق “حدث الانتصار الوهمي”!
تساءلت وأنا أرى الأسيرات الأربع:
• هل كنَّ حقًا أسيرات؟
• هل كنَّ فعلًا تحت الأرض لأكثر من عام؟
• هل هذا شكل فتيات تم اختطافهن؟
تعجبت من غباء المخرج المسؤول عن تصوير مشهد تسليم الأسيرات! كيف يختار أسيرات “مدغبجات”، وجوههن مشرقة، والابتسامة تشق أفواههن؟!
المبكي في المشهد أن المخرج جمع حشدًا من الفلسطينيين كي يصفقوا لهؤلاء “الأسيرات” اللاتي سيعدن لأهلهن، بينما سينطلق الفلسطينيون الذين حضروا مراسم التسليم إلى عربات المساعدات الدولية، كي يستلموا شيئًا منها كما وعدهم المخرج!
وأعود للعنوان مرة أخرى:
“من الهبل” أن تفتعل مغامرة، فيستغلها عدوك ليحرق منطقتك ويدمرها، كي يجهزها لتشييد (ريفيرا الشرق الأوسط)! “والاستهبال” أن تطلق أبواقك لتقنع الآخرين بأن هذا “انتصار”!
خاتمة
العقل العربي يجب أن يقاوم هذا التغييب الاستراتيجي الممنهج، وألا ينساق خلف أكاذيب يروجها “مرضى” يتوهمون أنهم قادة وزعماء ونشطاء ومحللون، بينما هم في حقيقتهم مصابون بالكذب المرضي! وأقتبس (بتصرف) ما نُسب إلى روبرت فيلدمان، أستاذ العلوم النفسية والدماغية في جامعة ماساتشوستس الأمريكية: “المصابون بالكذب المرضي بارعون جدًا، لن تعرف متى يكذبون، ولا تتوقع منهم الندم على كذبهم أيضًا؛ فهم ينظرون إلى المواقف من منظورهم الخاص، وليس لديهم أي اعتبار لمشاعر الآخرين نتيجة أكاذيبهم”.
وهذا يختصره مشهد حراس حماس (وهم يحمون لمدة عام ونصف) “أسيرة صهيونية” وبيدها كلبها الخاص تسبب أسْرُها في قتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين! يا له من انتصار!