
طالَما قَرَأْتُ – وسَمِعْتُ – كَلِمَةً، أَقْرَبُ الظَّنِّ أنَّ صاحِبَها يَقُولُها دُونَ أن يُحَقِّقَها، ولَعَلَّهُ قَرَأَها، مَرَّةً، فرَسَخَتْ في ذِهنِهِ، وأَنْزَلَها منزِلَةَ العِلْمِ اليقينيّ.
تَصِفُ تلك الكلمةُ النَّاقدَ الدُّكتور عَلِيّ الرَّاعي بِـ “الانطباعيّ”!
وكلمةُ “انطباعيٍّ” مِنَ الكلماتِ الرَّديئةِ في مُعْجَمِ النَّقدِ الحداثيّ!
وعلينا أن نُلِمَّ إلمامةً سريعةً بالدُّكتور الرَّاعي، ومِنْ تلك الإلمامةِ أنَّهُ تَخَرَّجَ، قديمًا، في قِسْمِ اللُّغةِ الإنگليزيَّةِ بجامِعةِ القاهرةِ، وأنَّهُ حازَ درجةَ الدُّكتوريَّةِ مِنْ بريطانيةَ، وعَرَفَ مناهجَ النَّقدِ الغربيِّ – وخاصَّةً اتِّجاهاتِ النَّقدِ الأمريكيِّ الإنگليزيِّ الجديدِ – في أُصُولِها ومَنَابِعِها.
لكنْ، ولكنْ هذهِ مُهِمَّةٌ!
مالَ الدُّكتور عَلِيّ الرَّاعي، منذُ حداثتِهِ، إلى العَمَلِ الأدبيِّ، يَقْرأُهُ قِرَاءَةَ مُحِبٍّ = وإلى صديقِهِ “القارِئِ” لا يستكبِرُ عَلَيْهِ، ولأنَّهُ مِن رُوَّادِ المسرحِ، كانَ مقعدُهُ في الشَّارِعِ، لا في حُجْرَةِ الدَّرْسِ، أوْ لِنَقُلْ: إنَّ عَلِيًّا الرَّاعي جَعَلَ نظريَّاتِ النَّقدِ الَّتي عَرَفَها في الغربِ تَجْلِسُ مَعَ الأدباءِ والقُرَّاءِ في دَخِيلةِ المسرحِ، وفي القَهْوَةِ.
وأَمْرٌ آخَرُ أنَّ عَلِيًّا الرَّاعي كانَ يرى نَفْسَهُ وارِثًا لتقاليدِ فُنُونِ القَوْلِ والتَّسليةِ عِندَ العربِ، تِلْكَ الَّتي أدركَ طَرَفًا مِنْها في بواكِيرِ نشأتِهِ.
ورُبَّما كانَ حَسَنًا أن نَتَذَكَّرَ مَعًا أنَّ الدُّكتور عَلِيّ الرَّاعي “مُثَقَّفٌ يسارِيٌّ”، لكنَّهُ لا يَزُجُّ بِيسارِيَّتِهِ في كُلِّ مكانٍ – كما هو الشَّأْنُ في محمود أمين العالِم وعبد العظيم أنيس، ومحمَّد مندور – هذا النَّاقدِ العظيمِ الذي بَدَأَ جَمَالِيًّا وانتهَى أُدْلُوجِيًّا مَدْرَسِيًّا –
ويسارِيَّةُ عَلِيّ الرَّاعي أفادَتْ النَّقْدَ الَّذي يَكْتُبُهُ في اقترابِهِ مِنَ النَّاسِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ في حَمْأَةِ الأُدْلُوجةِ، وكانَ مُدافِعًا قَوِيًّا عنْ أدبيَّةِ الأدبِ.
ومِمَّا قِيلَ – وهُوَ صحيحٌ – أنَّ عَلِيًّا الرَّاعي ناقِدٌ يُحْسِنُ الحِكايَةَ النَّقدِيَّةَ – وعَلَيْنا أن نتذكَّرَ صِلَتَهُ القديمةَ بِفُنُونِ القَوْلِ والتَّسليةِ في تُرَاثِنا الشَّعبيِّ – يقرأُ الرِّوايةَ بكمالِها وتمامِها، ومِنْ أَلِفِها إلى يائِها، ويَتَفَرَّجُ العَرْضَ المسرحِيَّ [ويَتَضَمَّنُ الفِعْلُ “تَفَرَّجَ” مَعْنَيَيِ المُشَاهَدَةِ وتفريجِ الهَمِّ عنِ النَّفْسِ] = أقولُ: يَتَفَرَّجُ العَرْضَ المسرحيَّ ويذُوقُهُ، حتَّى إذا أَتَمَّ ذلكَ أنشأَ يَنْقُلُ حِكَايتَهُ النَّقديَّةَ مَعَ ما قَرَأَ وشاهَدَ، ولِذا كانَ نُقَّادُ ذلكَ الزَّمانِ – في مِصْرَ خاصَّةً – أولئكَ الَّذينَ يَقْطَعُونَ أوقاتَهُمْ في القَهْوَةِ في احتساءِ أكوابِ الشَّاهي وكركرةِ الشِّيشةِ = أَجْدَى عَلَى حياتِنا الأدبيَّةِ مِنْ أندادٍ لَهُمْ لَمْ يُغادِرُوا حُجْرَةَ الدَّرْسِ والكِتابَ الْجامِعيَّ.
وكما خالَفَ عَلِيٌّ الرَّاعي زُملاءَهُ الَّذينَ لمْ يُغادِرُوا الْجامِعةَ = خالَفَ، كذلكَ، نُقَّادَ الأُدلوجةَ، أولئكَ الَّذينَ تَصَوَّرُوا أنَّ الأدبَ جُزْءٌ مِنَ أدواتِ السُّلْطةِ السِّياسيَّةِ، ذاتِ المُسُوحِ الاشتراكِيَّةِ = أولئكَ الَّذينَ لا تزالُ لِـ “قواعِدِ النَّقدِ” سُلْطانٌ عَلَيْهِمْ، وكانَ محمَّد مندور – وهذا مُؤْسِفٌ – واحِدًا مِنْهُمْ!
وسأُرِيكَ الفَرْقَ بينَ فَهْمَيْنِ للأدبِ لدى هذينِ النَّاقِدَيْنِ الْجليلَيْنِ:
تَصَوَّرَ طه حسين، في بُدَاءَةِ رِوايتِهِ الشَّاجِيَةِ البديعةِ (دُعاء الكَرَوَان) أنَّ آمِنَةَ [بطلةَ الرِّوايةِ] تستأذِنُ الكروانَ – الَّذي طالَما ناجَتْهُ – في أنْ تُؤَدِّيَ إلى القارِئِ طَرَفًا مِنْ تِلْكَ المُنَاجاةِ، فكانتِ الرِّوايةُ!
فانظُرْ ماذا كانَ!
عابَ محمَّد مندور هذا الاستهلالَ، ورأى فيهِ مُخَالَفَةً لطبيعةِ الأشياءِ، ولاذَ النَّاقِدُ الخبيرُ – وهُوَ لا شَكَّ خبيرٌ – إلى “القواعِدِ” الَّتي رَجَعَ إليها، لا إلى طبيعةِ الفَنِّ، ولا إلى بَصِيرةِ النَّاقِدِ، فماذا قالَتِ “القواعِدُ”؟
قالَ مندورٌ: إنَّ هذهِ “المُناجاةَ” بينَ البطلةِ والكروانِ لا تُشاكِلُ الواقِعَ، وإنَّ في الحديثِ الَّذي أدارَهُ طه حسين عَلَى لِسانِ آمِنةَ – وشخصيَّاتِ الرِّوايةِ – ما يُبَايِنُ الواقِعَ الَّذي ينبغي أنْ تُلائِمَهُ، وإنَّ في أفكارِ الرِّوايةِ ما يَدْفَعُ بها بعيدًا عنِ “الواقِعِ”!
وأنا أُرِيدُكَ أنْ تتنبَّهَ معي إلى أنَّنا لا نزالُ نقرأُ هذهِ الكلماتِ، مَهْما اختلفَتِ الأسماءُ والأزمنةُ والمُتَّجَهاتُ؛ نقرأُها عِنْدَ نُقَّادِ اليسارِ، قديمًا، ونَقْرَأُها عند نُقَّادٍ حداثيِّينَ، حديثًا، ودَعْكَ مِنْ تَصَوُّرِ أنَّ ما بَيْنَهُمْ لَمُخْتَلِفٌ جِدًّا؛ فالأصلُ واحِدٌ، وهُوَ خُضُوعُ النَّاقِدِ لِـ “القواعِدِ” الَّتي لا يَحِيدُ عنها!
ودُونَكَ – الآنَ – ما قالَهُ عَلِيّ الرَّاعي عنْ “تُهْمَةِ” مُبايَنَةِ طه حسين ورِوايتِهِ لِـ “الواقِعِ”:
اِطَّرَحَ عَلِيّ الرَّاعي تفسيرَ محمَّد مندور واستنكَرَهُ؛ لا لِمُخالَفَتِهُ “الواقِعِ”، وإنَّما لمُخالَفَتِهِ طبيعةَ الفَنِّ؛ فطه حسين إنَّما يَكْتُبُ فَنًّا، ولَمْ يَقُلْ هُوَ، ولَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّ (دُعاءَ الكروانِ) تَنْحُو مَنْحَى الواقِعِيَّةِ؛ لِنُطالِبَها بِـ “مُشاكَلَةِ الواقِعِ”، وإنَّما هِيَ “رِوايةٌ شِعْرِيَّةٌ خَطَابِيَّةٌ لا تأْبَهْ كثيرًا إنْ هِيَ لَمْ تُشَاكِلِ الواقِعَ، ولا هِيَ تُصَابُ، مِنْ جَرَّاءِ هذا، بكبيرِ ضَرَرٍ، ومِنَ الواضِحِ أنَّ كاتِبَها قدْ قَصَدَ أن يتناوَلَها بهذا الأسلوبِ دُونَ غَيْرِهِ، فَمِنَ الشَّطَطِ أن نُحاسِبَهُ في غَيْرِ ميدانِهِ، وأن نُطَبِّقَ عَلَى عَمَلِهِ مقاييسَ لا يَستدعيها هذا العَمَلُ استدعاءً تلقائيًّا”.
وكأنَّما أرادَ عَلِيٌّ الرَّاعِي أن يُزِيحَ أوهامَ النُّقَّادِ، فساقَ إلى قارِئِهِ مَثَلًا قَوِيًّا، يَعْلُو فيهِ الفَنُّ عَلَى دَعاوَى “مُشاكَلَةِ الواقِعِ” الَّتي باتَ النُّقَّادُ – كِبارُهُمْ وصِغارُهُمْ – يُرَدِّدُونَها في جَذَلٍ وانتشاءٍ!
يقولُ عَلِيٌّ الرَّاعي:
“(دُعاءُ الكروانِ) أَشْبَهُ ما تَكُونُ بالأُوبِرا، فهي مِثْلَها تبني نَفْسَها عَلَى أُسُسٍ فنِّيَّةٍ كُلُّها يَجْحَدُ الواقِعَ ولا يَعْتَرِفُ بِهِ، ويتَّخِذُ مِنْ هذا الْجُحُودِ أُسلوبًا فَنِّيًّا ومُبَرِّرًا للبقاءِ، فَهَلْ تُرَانا نسألُ مُؤَلِّفَ الأُوبِرا لِمَ يَجْعَلُ أبطالَهُ يُغَنُّونَ بَدَلَ أن يَتَحَدَّثُوا؟ وهَلْ تُرَانا نَحْتَجُّ عليهِ لأنَّهُ يَجْعَلُ شخصيَّاتِهِ تُزَعِّقُ بأسرارِها وبأفكارِها بَدَلًا مِنْ أنْ تُخْفِيَها أوْ تَهْمِسَ بها! لَوْ طَلَبْنا هذا لَكُنَّا كَمَن يَسأَلُ الشَّاعِرَ أن يَكْتُبَ النَّثْرَ بَدَلَ الشِّعْرِ، أوْ كَمَن يَطْلُبُ إلى المَثَّالِ أن يَرْسُمَ الصُّورةَ بالقَلَمِ، بَدَلًا مِنْ أن يَنْحِتَ الوُجُوهَ بالأزميلِ” [ص ١٦]
في هذا الفَصْلِ الَّذي نُشِرَ في سَنَةِ ١٣٨١هـ = ١٩٦١م [في فَوْرَةِ الحَمَاسةِ للواقِعِيَّةِ] = تَبْرُزُ شخصيَّةُ النَّاقِدِ القارِئِ العالِمِ العارِفِ؛ النَّاقِدِ الَّذي يَنْتَصِرُ للفَنِّ وللنَّقْدِ، ويُصَحِّحُ الفُهُومَ، ويَجْعَلُنا نُحِبُّ الأدبَ، ولا تُفْزِعُنا “قواعِدُ النَّقْدِ”، وفيها مِنَ البُؤْسِ والمَدْرَسِيَّةِ ما فيها!