سبق قمة القمم في الرياض عواصف هوجاء ضربت المنطقة، خصوصا فيما يتعلق بغزة من أجل تصفية القضية الفلسطينية تحت شعارات إنسانية، كانت مواقف السعودية مزيج من الثبات والصرامة والحكمة، فهي مواقف ثابتة أمام إقامة دولة فلسطينية مقابل إقامة علاقة مع إسرائيل، وهي ليست في عجلة من أمرها والكرة في مرمى إسرائيل وأمريكا، وبين صرامة وقف التهجير باعتباره خط أحمر بعدما اعتبرت التهجير القسري أو الطوعي تطهير عرقي لم يحدث في أوروبا بعد حربين عالميتين عندما اتجهت أمريكا إلى تطبيق مشروع مارشال لإعادة الإعمار دون تهجير سكان أوروبا، وبين الحكمة التي دائما تفتح الباب أمام الحوار والدبلوماسية وفق الواقعية السياسية بدلا من الحقوق التاريخية المزعومة والكاذبة فيما العالم متغير فمن غير المقبول تهجير السكان واستباحة أرضهم ومنازلهم بحجج الحق التاريخي.
أدركت الإدارة الأمريكية والإسرائيلية أن السعودية لا تخضع لإملاءات الإدارة الأمريكية كما ظنت إسرائيل من أجل تصفية القضية الفلسطينية التي ليست محل تفاوض أو محل مزايدات، خصوصا وأن مواقف السعودية دائما كانت ثابتة لا تحتمل التأويل ففي 18 سبتمبر 2024 أوضح سمو ولي العهد في افتتاح أعمال مجلس الشورى أنها لن تقيم علاقات مع إسرائيل دون إقامة دولة فلسطينية، رغم ذلك أرادت إسرائيل من السعودية أن تتوقف عن طرح هذا الخطاب مجددا، لكن الرئيس ترمب خيب آمال نتنياهو وخرج أمام الإعلام متراجعا عن تصريحاته وأنه حريص على سلامة الاقتصاد العالمي والأمريكي ولا يود أية مواجهة مع السعودية.
السعودية لديها خبرة في التعامل مع الرئيس ترمب منذ ولايته الأولى وتعرف أنه يرسل بالونات اختبار لإرباك المشهد العالمي وإن كانت تأخذها على محمل الحذر، لكن السعودية تواجه الأزمات باستثمار مكانتها واستخدام أوراقها المؤثرة، فبعد السابع من أكتوبر أدركت السعودية انها كانت تهدف لقلب المواقف الجيوسياسية في وقف مفاوضات إقامة الدولة الفلسطينية، اتجهت السعودية فورا إلى تشكيل قمتين عربية وإسلامية وتشكيل تحالف منهما جاب العالم نتج عنه تشكيل تحالف عالمي جديد لأول مرة في التاريخ وصل عدد الدول التي وافقت على إقامة دولة فلسطينية 149 دولة، وهو ما أربك إسرائيل، رغم ذلك أرادت إسرائيل استثمار وجود ترمب للقفز على تلك الإنجازات التي قادتها السعودية، لكن السعودية تمتلك من الدبلوماسية والحنكة والمكانة والقدرة على امتصاص تلك الصدمات التي تعودت عليها منذ فترة رئاسة ترمب الأولى وبقية الرئاسات ومن يتذكر بايدن حينما اتى أراد عزل السعودية لكنه لم يتمكن وفضل مصالح بله وزار السعودية لإعادة وتيرة العلاقات، وليس أمام إسرائيل سوى تحقيق مطالب السعودية أو البقاء في العزلة خصوصا وأن المنطقة مقبلة على مرحلة تنمية اقتصادية شاملة.
اختيار الرئيسين ترمب وبوتين السعودية مقرا للتفاوض حول إنهاء الحرب في أوكرانيا اتى لمواقف انتهجتها السعودية جعلتها في مكانة مقبولة من جميع الأطراف بسبب أنها رفضت الاصطفاف في فرض عقوبات على روسيا، وهو ما يهدد امن الطاقة العالمي، لكن في المقابل صوتت السعودية في مجلس الأمن ضد روسيا في الاستيلاء على أراضي في أوكرانيا، وألمحت السعودية أنها قد تبيع بعض حيازاتها من الديون الأوروبية، إذا قررت مجموعة السبع مصادرة الأصول الروسية المجمدة، وأبلغت وزارة المالية السعودية نظرائها في مجموعة السبع بمعارضتها للفكرة، التي تهدف إلى دعم أوكرانيا، حيث وصفها أحد الأشخاص بأنها تهديد مستتر، وهو ما يمثل نفوذ السعودية المتزايد على المسرح الدولي والصعوبة التي تواجهها مجموعة السبع في حشد الدعم، في المقابل قدم مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية حزمة مساعدات إنسانية لأوكرانيا بمبلغ 400 مليون دولار، ودعوة الرئيس زيلينسكي لحضور قمة عربية في 2023 من أجل الاستماع إلى وجهة نظره خصوصا وأن زيلينسكي يعول على قمة السعودية لتحقيق السلام، ومنح سمو الأمير محمد بن سلمان ولي العهد فرصة لزيلينسكي إلقاء كلمة في قمة جدة، فأصبحت السعودية محط انظار ورضا الجميع.
مكن السعودية من التوسط لإطلاق سجين أمريكي من سجون روسيا مقابل إطلاق سجين روسي من السجون الأمريكية أشاد ترمب بهذا الجهد السعودي في عملية التبادل، ما يعني أن السعودية جسر سلام بين أكبر قوتين استراتيجتين تمتلكان من الأسلحة النووية ما لا تمتلكه بقية الدول في العالم، وهما كانا قوتان متصارعتان في زمن الحرب الباردة، وبسبب الأزمة في أوكرانيا عادت الحرب الباردة بينهما وإن كانت بشكل جديد، لكن يبقى الخوف من انجرار العالم نحو حرب عالمية ثالثة مدمرة بسبب امتلاك كل منهما أسلحة استراتيجية، فدور السعودية يأتي لنزع فتيل هذه الحرب العالمية الثالثة المحتملة، مما يجعل المنطقة تتفرغ للنمو والتنمية، وتتحول إلى قلب العالم الاقتصادي.
ما يعني أن المنطقة بقيادة سعودية ستقود مرحلة من النمو الاقتصادي العالمي تشارك فيه أسيا الصين والهند وأوروبا والولايات المتحدة وتحريك النمو الاقتصادي في القارة الأفريقية، أي أن السعودية قطب مركزي يربط بين جميع الأقطاب لاحتواء الصراعات العالمية، وإذا أرادت إسرائيل المشاركة في هذا النمو والتنمية الاقتصادية المستقبلية أن تنهي عزلتها لكن عليها أن تعطي الحقوق الفلسطينية، عدا ذلك فلن يقبل أحد من دول المنطقة أن تصفي القضية الفلسطينية وهي غير قادرة على منافسة الدور القيادي السعودي وهو أمر مستبعد على المدى الطويل فمن مصلحة إسرائيل قبل مصلحة العرب أن ترضخ للحق حتى تكون مقبولة إقليميا.
مكالمة ترمب وبوتين تخلط أوراق الرئيس الأوكراني، وبولندا ترفض مطالب الرئيس الأوكراني زيلينسكي تشكيل جيش أوروبي، ووزير خارجية بولندا خاطب الرئيس ترمب إذا أردت جائزة نوبل للسلام عليك تحقيق السلام العادل، ووزراء خارجية بريطانيا وألمانيا وفرنسا يغازلون روسيا العودة لمجموعة ال7 إذا انتهت الحرب، وأمين عام الناتو حذر دول أوروبا من الشكوى بشأن مفاوضات أوكرانيا وتقديم الأفكار الملموسة، خصوصا بعد مغازلة نائب الرئيس الأمريكي روسيا عندما اعتبر أوروبا ضعيفة وهو ما أغضب الدول الأوروبية، ما جعل نائب رئيس مجلس الأمن الروسي يعتبر أوروبا ضعيفة كما قال نائب الرئيس الأمريكي، وأكد ميدفيدف أن أوروبا ضعيفة لا أحد يحتاجها سوى نفسها، جعلت زيلينسكي يصرح لا قرارات تتخذ بشأن أوكراينا من دون كييف وأوروبا، وفي نفس القوت أكد أن أوكرانيا تريد السلام لكنها تحتاج ضمانات أمنية حقيقية، كل ذلك تدركه السعودية ولديها القدرة على التوسط بين جميع الأطراف والحصول على تنازلات من أجل السلام، وان الحوار الوسيلة الوحيدة للتوصل إلى السلام وهو النهج الذي اتخذته السعودية مع جميع قضايا المنطقة سواء في السودان او في اليمن لوقف حمام الدم.
• أستاذ الجغرافيا السياسية والاقتصادية بجامعة أم القرى سابقا