بعد مرور ٥٠ عاماً عدت للقرية الأولى من خلال هاتفي الجوال لكي أدون أقدم صورة ذهنية لم تمحُها السنين من ذاكرتي المكدودة !
فهي صوراً لا يفهم مفرداتها الأجيال الحديثة ، ولا يستوعبها الذكاء الاصطناعي!!
فبينما أنا جالس على اريكتي في منزلي الحديث شممت رائحة العرعر المستقرة في ملف الذاكرة منذ الطفولة عندما كانت تنبعث تلك الرائحة الزكية من دخان قبس الملَّة المتصاعد الذي كان يملأ سقف منزلنا الحجري المخلوب من داخله بالطين والتبن وروث الأبقار الذي هو الآخر يبعث رائحة الأصالة والنشأة الأولى وعشق المكان والزمان ، فيتشكل ذلك الدخان إلى عًقدٍ من تلبد السُخام في خشب البيت المسقوف بأشجار العرعر، ومع كثافة دخان القبس المتصاعد نحو الخوة وهي: ( كوة السقف) تتسلل بعض أشعة شمس الشروق الذهبية من نافذة خشبية صغيرة فتخترق ذلك الدخان المتصاعد فتشكل عموداً من نور يصل إلى تلك الفتحة التي تسمى الخوة بفتح الخاء، وتشديد الواو بينما مصفاة القهوة التي تسمى الخمرة مائلة وقعرها فوق الجمر طرف الملة ،وكفكير الشاهي بجوارها وفوق الأثافي صاجاً عليه خبزة شهية تبدو قوراء كالقمر في منتصف الشهر ، فبينما تعد سيدة المنزل ذلك الإفطار الشهي على بِلالٍ من السمن والحليب ، وتعد لي زنبيلاً من الخصف لتضع فيه إفطاراً للحمَّاية ، وهم صبية في سقيفة تعلوا بلادنا التي تموج فيها الحنطة مع هبوب الرياح ،وكأنها بحر لجي، والحمَّاية حولها كلاً منهم بمقلاعه يستعرض مهارة فرقعة المرجمة لإخافة الطيور ، وكلاً منهم يزجرها بصوته الرنان ، وبأسماء الطيور حق حق حق ، أررر ، فررر ..إلخ
كان يوماً حافلاً بين حماية، وفلاحة، وسقاية،واحتطاب، وجمع للعلف ، ورعي للبهم، ففي ذلك الوادي يحتشد أهل القرية بكل الأعمال ،والاصوات تملأ المكان، فكانت حياة حافلة بالنشاط والحيوية، تبدأ منذ الفلق ، وتستمر حتى وداع الشفق، فإذا وقب الغسق، تهدأ الأصوات ،وتسكن الأرواح عدا نداءات المؤذن، أو صوت المذياع.
ثم تبدأ على ظلال القبس ،وضياء الإتريك المتذبذب الذي يجعل الزنابيل المعلقة ،والفؤوس،والمحراث، والقراب والدلاء. والمكاتل تبدو وكأنها متحركة ! لتصنع جواً من الرعب قبل الإنصات لرواية الجدة بصوتها المبحوح عن جلاجل والسعلية !
وللذكريات بقية

0