لا نهوض لأمة ليس لها تاريخ، وليس ثمة تاريخ بلا أبطال، فنهوض الأمم بكل تأكيد لا يُحقق بالأمنيات؛ إنما بإرادة قائد واعية تصنع المعجزات وترسم المستقبل الواعد أمام أبناءه وأحفاده، لأن أمة بلا تاريخ هي أمة بلا مستقبل!
إن ذكرى يوم التَأْسِيس ليس مجرد تاريخ في سجل الأحداث، بل هو محطة مفصلية تعكس أصالة هذا الوطن وجذوره العميقة التي تمتد إلى قرون مضت. وفي يوم 22 فبراير من كل عام، يحتفل السعوديون بهذه الذكرى، مستذكرين قصة بناء عظيمة بدأت مع الدولة السعودية الأولى عام 1727م، حينما أرسى الإمام محمد بن سعود أولى دعائم هذا الكيان، لتتوالى من بعده الإنجازات التي صنعت مجد المملكة العربية السعودية كما نعرفها اليوم.
قبل ثلاثة قرون، كانت الجزيرة العربية تموج بالتحولات والتحديات، إلا أن رؤية الإمام محمد بن سعود كانت مختلفة، فقد أدرك أن الاستقرار والازدهار لا يتحققان إلا بتوحيد الجهود وترسيخ دعائم الحكم على مبادئ العدل والتضامن. فكانت الدولة السعودية الأولى نموذجًا يجسد هويةً متجذرة في القيم العربية والإسلامية، ومبنية على أسسٍ راسخة من الوحدة والأمن والتنمية. استمر هذا النهج في الدولة السعودية الثانية، ثم جاءت الدولة السعودية الثالثة بقيادة الملك المُؤَسِّس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – طيب الله ثراه – امتدادًا لتلك المسيرة، حيث وحَّد البلاد تحت راية واحدة، وأعلن قيام المملكة العربية السعودية في 21 جمادى الأولى 1351هـ الموافق 23 سبتمبر 1932م، على ذات المبادئ التي قامت عليها الدولة السعودية الأولى، ليؤكد أن جذور المملكة ممتدة في التاريخ، وأن حاضرها ومستقبلها يستندان إلى إرث راسخ من الوحدة والاستقرار.
“من يريد أن يعرف كيف تأسست هذه الدولة، وكيف قامت، فعليه أن يقرأ تاريخها، فقد قامت على الدين، وعلى العقيدة، وعلى الكتاب والسنة” – الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود.
هذا الاقتباس التاريخي يعكس الأساس الراسخ الذي قامت عليه المملكة، حيث لم يكن تأسيسها مجرد حدث سياسي، بل كان مشروعًا حضاريًا يهدف إلى بناء دولة قوية تستمد شرعيتها من الدين والقيم الأصيلة.
واليوم، يُمثل يوم التَأْسِيس فرصةً للاحتفاء بالقيم التي أسست المملكة، مما يجعله ليس مجرد ذكرى تاريخية، بل نافذة تربط الماضي بالحاضر والمستقبل، وتؤكد أن مسيرة البناء والتطوير مستمرة برؤية طموحة تُرسخ مكانة المملكة بين الأمم، وتُحقق مستقبلاً أكثر ازدهارًا واستقرارًا.
“نعتز بذكرى تأسيس هذه الدولة المباركة في العام (1139هـ / 1727م) ، ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، أُرست ركائز السلم والاستقرار وتحقيق العدل. وإن احتفاءنا بهذه الذكرى هو احتفاء بتاريخ دولة، وتلاحم شعب، والصمود أمام كل التحديات، والتطلع للمستقبل.” – مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود.
“لدينا عمق تاريخي مهم جدًا، مُوغِل بالقدم ويتلاقى مع الكثير من الحضارات. الكثير يربط تاريخ جزيرة العرب بتاريخ قصير جدًا، والعكس أننا أمة مُوغِلة في القدم.” – سيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء.
تؤكد القيادة الرشيدة على ارتباط يوم التَأْسِيس بجذور الدولة العميقة، حيث لم يكن تَأْسِيس المملكة مجرد حدث تاريخي، بل كان خطوة مفصلية نحو بناء كيان سياسي واجتماعي متين يقوم على الوحدة والاستقرار، ويستمر في التطور والازدهار وفق رؤية طموحة.
يوم التَأْسِيس ليس مجرد احتفاءٍ بزمن مضى، بل هو استدعاء لذاكرة الوطن الحية التي تحمل في طياتها قيم الشجاعة، والكرم، والمروءة، والوحدة. هذه القيم كانت المبدأ الذي قامت عليه الدولة، فكانت الهوية السعودية امتدادًا لثقافة الجزيرة العربية التي عُرفت عبر العصور بتمسكها بالأخلاق والمبادئ النبيلة. كما أن الموروث الثقافي الذي تركه الأجداد ظل محفوظًا في عادات وتقاليد الشعب السعودي، ليعكس صورة مجتمع متماسك يعتز بجذوره ويفتخر بماضيه. ويتجلى هذا الإرث في الفنون التقليدية، والأزياء التراثية، والشعر النبطي، التي تشكّل جزءًا لا يتجزأ من هوية المملكة. من خلال الاحتفالات الرسمية والشعبية بيوم التَأْسِيس، يتجدد الاعتزاز بهذا الإرث، حيث تُقام الفعاليات التي تستعرض التاريخ السعودي وتُبرز ملامح الثقافة العريقة.
لا يمكن الحديث عن يوم التَأْسِيس دون التطرق إلى الأثر الاجتماعي العميق الذي يتركه في نفوس السعوديين. فهذا اليوم يُمثل لحظةً للاعتزاز بالوحدة الوطنية، ويُرسخ في الأذهان أن المملكة لم تكن وليدة صدفة، بل هي ثمرة كفاح مستمر وتضحيات قدمها الأجداد للحفاظ على كيان الدولة واستقرارها. ويُجسد هذا اليوم روابط الأخوة بين المواطنين، حيث يجتمع الأفراد والعائلات للاحتفاء بالمناسبة، ويتناقلون القصص التي تحكي عن أمجاد الماضي وتحدياته. كما يعزز من الهوية الوطنية ويغرس في الأجيال القادمة شعورًا بالانتماء والفخر بتاريخهم العريق.
المملكة اليوم، بقيادة مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود وسيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء – حفظهما الله -، تسير على نهجٍ راسخ من التطوير والتحديث، دون أن تتخلى عن هويتها وأصالتها. فرؤية 2030، رغم كونها مشروعًا مستقبليًا، هي امتدادٌ لما بدأه الأجداد، إذ تقوم على قيمٍ متوارثة تعزز الهوية الوطنية، وتدفع المملكة نحو مستقبل أكثر ازدهارًا. هذه الرؤية انعكست على أرض الواقع بإنجازات استثنائية، مثل قفز المملكة إلى المرتبة الـ16 عالميًا في الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023، وأصبحت ضمن أقوى 20 اقتصادًا عالميًا، فضلًا عن إطلاق مشاريع عملاقة مثل نيوم والقدية.
عند مقارنة الماضي بالحاضر، نجد أن المملكة قطعت أشواطًا هائلة في التنمية والتقدم. ففي حين أن الدولة السعودية الأولى وضعت الأسس الأولى للوحدة والاستقرار، فإن المملكة اليوم أصبحت من أقوى الاقتصادات في المنطقة، وحققت إنجازات عالمية في الطاقة، والتكنولوجيا، والسياحة، والتعليم. ما كان يومًا مجرد حلم في عقول المؤسسين، أصبح اليوم واقعًا ملموسًا يشهد عليه التقدم المستمر والمكانة العالمية التي تحظى بها المملكة.
الاحتفاء بيوم التَأْسِيس هو تذكير بأن هذا الوطن لم يُبنَ بين ليلةٍ وضحاها، بل هو ثمرة كفاح رجالٍ وضعوا الأسس، وساروا على درب الوحدة حتى وصلت المملكة إلى مكانتها اليوم. في هذا اليوم، يتجدد الولاء للقيادة، ويُستعاد الفخر بالهوية، وتُرسّخ القناعة بأن المستقبل الواعد لا يُمكن تحقيقه إلا بالتمسك بجذور الماضي، والاعتزاز بالإرث الحضاري العظيم.
ختامًا، يظل يوم التَأْسِيس شاهدًا على أصالة هذا الوطن، ورمزًا لوحدة أبنائه، ودليلًا على أن المملكة ليست مجرد دولة، بل هي قصة مجدٍ ممتدة، تُكتب فصولها بكل فخرٍ وعزيمة، وتُحكى للأجيال القادمة لتستلهم منها روح البناء والعطاء. إن يوم التَأْسِيس ليس فقط ذكرى وطنية، بل هو تأكيد على أن القيم التي قامت عليها هذه الدولة لا تزال حاضرة في كل مرحلة من مراحل تطورها، وأن المستقبل لا يمكن أن يُبنى دون الارتكاز على الأسس التي وضعها الأجداد قبل قرون.
يوم التَأْسِيس ليس مجرد ذكرى تاريخية، بل هو إحساس متجدد بالفخر والاعتزاز لكل سعودي وسعودية. إنه يومٌ يُعيد إلى الأذهان تضحيات الأجداد، ويغرس في القلوب قيم الولاء والانتماء، ويؤكد أن هذا الوطن لم يكن وليد الصدفة، بل بُني بعزيمة لا تلين، ورؤية لا تعرف المستحيل.
وفي كل عام، يحتفل السعوديون بهذه المناسبة، وهم يدركون أنهم امتداد لمسيرة عظيمة، ومسؤولون عن مواصلة البناء والنهضة، ليظل هذا الوطن شامخًا، متجذرًا في تاريخه، ومضيئًا بمستقبله.
حفظ الله المملكة وقادتها وشعبها، وأدام عزها ومجدها ووحدتها، وجعلها ذخراً للإسلام والمسلمين.
• أستاذ القانون الدولي – جامعة جدة
# سياسي – دولي – دبلوماسي