
«زاوية منفرجة»
أرمدان هو رمضان باللسان النوبي، والذي من عجائبه (اللسان النوبي)أنه ليس فيه كلمة واحدة تبدأ بالراء، ويسمي النوبي بنته رقية ولكنه يناديها “ارقية”، ولهذا فالنوبي يقول أرمدان، وهو يعني رمضان، ويصبح حرف/ صوت الضاد “د”، لأن محاولة نطق الضاد، تسبب للنوبي تضخم البروستات، وللنوبية تكلس المبيض
كلما هلّ علينا رمضان، أغوص في سنام الذاكرة وأتذكر سنوات طفولتي وصباي في جزيرة بدين النهرية في شمال السودان، حيث أهلي النوبيين وعائلتي الممتدة، ومثوى أجدادي، وكان رمضان بالنسبة لنا في تلك السن الغضة موسما لطيب الطعام، ففي بلدتنا تلك لم تكن البيوت تعرف اللحم إلا يومي الاثنين والخميس المخصصين ل”السوق”. ففي ساحة شاسعة المساحة كان ذينك اليومان يشهدان وفود التجار والباعة، ومن بينهم القصابون من نواح مختلفة لبيع بضاعتهم، فتشتري أمهاتنا بعض اللحم فيكون لمائدتي الاثنين والخميس مذاق شديد الخصوصية، وكنت أعجب لماذا تحرص أمي على تربية الدجاج، بينما لم تكن تذبح واحدة منها إلا بعد ان ينقطع عنها الطمث، وتتوقف عن الارسال والتبييض، وعندها يصبح لحمها شيئا وسطا ما بين البلاستيك والمطاط
كان التعليم الديني في المدرسة الابتدائية يقوم على التلقين الببغاوي، ولا أذكر أو يذكر غيري مدرسا شرح لنا عمليا كيف يكون الوضوء او كيف تكون الصلاة، ومع هذا كنا مطالبين بحفظ فرائض وسنن ونواقض الوضوء، وانظر حال صبي يافع مثلي في السابعة أو نحوها، وأعجمي في عرف العرب، مطالب بأن يعرف ان الوضوء فيه الاستنشاق والاستنثار ومسح صماخ الأذنين، ومن نواقضه: ما يخرج من السبيلين، والسبيل عند أهل السودان هو زير الماء، الذي ينصبه فاعل خير ليتسنى لعابري السبيل الشرب منه، وهكذا جعلني عقلي الصغير أنفر من شرب الماء من أي سبيل كي لا يبطل وضوئي
وفيما يتعلق برمضان، فقد شحنونا عاطفيا بأن الصوم دليل المرجلة والرجولة، يعني لم يقولوا لنا ونحن صغار إن بإمكاننا الصيام الجزئي المتدرج المدى، كي نعتاد عليه عندما نصبح مكلفين بالصيام التام، وهكذا قررت ذات رمضان، وأنا دون العاشرة، الصيام التام، ومن عادة رجال أهل جزيرتنا في رمضان، السباحة في النيل لعدة ساعات قبل الغروب، وهكذا ذهبت الى النهر لأسبح مع السابحين، في نحو منتصف النهار، وكان الماء منعشا، وسبحت جيئة وذهابا في عدة اتجاهات عدة مرات، ثم غصت، وعندها لم استطع مقاومة الرغبة في شفط جرعة صغيرة من الماء، ففعلت وأحسست بنشاط دافق، وسبحت على السطح قليلا ثم غصت وشفطت ماء كثيرا حتى طفوت دون كبير جهد، ثم أحسست بالإجهاد بدرجة انني عجزت عن مواصلة السباحة، وأمسك بي احد كبار السن وأخرجني من الماء
تمددت على الشاطئ الرملي، وبطني تكاد تنفجر من فرط الامتلاء بالماء، ثم جلست واضعا رأسي بين الركبتين، فإذا بالماء ينساب من فمي لا إراديّا، وكلما تواصل انسكابه، ازددت إحساسا بالراحة، وفجأة انتبهت الى انني محاصر بعدد من الصبية يضحكون علي، ويهتفون: ارمدان كبي، وتعني فاطر رمضان، ولازمتني هذه الكنية في كل رمضان حتى فارقت ديار النوبة بعد الالتحاق بمدرسة ثانوية في السودان الأوسط، وما زال بعض أصدقاء تلك المرحلة يهنئونني مع مقدم الشهر الفضيل: نبارك لك الشهر يا “أرمدان كبي”
راكمت ورفاقي الصبية في عدة رمضانات ذنوبا صغيرة. فقد كنا شغوفين بموائد السحور، التي كان قوامها الرز والشعيرية بالحليب، ومن فرط عشقي للشعيرية فقد أتقنت طبخها (وطبخها لا يحتاج الى أي مهارة)، ولازمني ذلك العشق حتى اغتربت في منطقة الخليج، حيث يسمون الشعيرية المطبوخة مع عناصر أخرى بلاليط، وبهذا الاسم القبيح تسبب الخليجيون في القطيعة بيني وبين معشوقتي الشعيرية، وكنت وما زلت شديد النفور من القرنبيط، حتى لو تستّر بمسمى الزهرة، فشيء ينتهي ب”بيط” لا يجوز في تقديره وضعه في الفم.
كان أهلنا لا يوقظوننا لمشاركتهم وجبة السحور حيث تلك الطيبات، وهكذا وضعونا أمام الخيار المر: لابد من خطة تجعلنا شركاء أصيلين في تلك الوجبة، وهكذا قررنا نحن صبية الحي لعب دور المسحراتي، وما جعل مهمتنا سهلة هو أنه لم يكن في منطقتنا من يملك ساعة سوى العمدة ومدير المدرسة الابتدائية، وكانا يسكنان بعيدا عن حيِّنا، فصرنا نلعب خارج البيوت حتى نحو العاشرة ليلا، ثم نحمل قطعا معدنية ونقرع عليها ونحن نصيح بلسان نوبي فصيح: اسها يا سايم وهِّد الدايم (اصح يا صايم وحِّد الدائم)، فيصحو أهل الحي، وتشرع النساء في إعداد الشعيرية والرز، فنعود الى بيوتنا ويصبح من حقنا مشاركتهم الطعام، ولم تنكشف جريمتنا تلك إلا بعد أن قرر بعض الكبار أداء صلاة الصبح بعد السحور، ثم مواصلة الصحيان حتى موعد أداء الأعمال النهارية، وانتبهوا الى الفجوة الزمنية الطويلة ما بين السحور وطلوع الشمس، فصادروا حريتنا للتجول بعد مغيب شمس نهار رمضان
كل عام وأنتم بخير، واسأل الله ان يعيد علينا جميعا رمضانات عديدة ونحن ننعم بحسن الفأل وراحة البال ومال يستر الحال، وأن يرفع عن بلادي غائلة الحرب، وأن يزيل من مسرحها من يريدون الصعود الى مراقي السلطة على جماجم المواطنين.
سيدنا الكاتب اللطيف (الفاطر الكبير)..
تمتعنا كالعادة و لعقود منذ أيامنا في جزيرة الابتسامة المشرقة ..البحرين.
و كما تعلم، فإضافة حرف الألف المجرورة إلى اول الكلمات أو حتى الاسماء..ليست حكراً على شمال السودان و جنوب مصر..النوبة؛ فستجدها عندنا في السعودية و غيرها في الخليج..و ليس فقط كسابقة لحرف (الراء) في مثل “رمضان”.. فتسمع عندنا و في البحرين: إمنيرة.. مكان منيرة..مثلا.
و ليتك عرجت على شرح كلمة (كبي)/فاطر ..مصدر الكلمة و تصريفها..بل و حتى نطقها الدقيق في النوبية.
و امثال حضرتك..على الأقل في سالف زمانك .كنا في مكةالمكرمة نسميه (صائم من ورا الزير).. فاطر رمضان!!