المقالات

القصة الإسلامية – نموذجاً فريداً

حظي الأدب الإسلامي باهتمام الدارسين والباحثين , فألفت فيه الكتب , ونوقشت فيه البحوث , وتخصصت فيه الرسائل , وعقدت له المؤتمرات , ودوّنت فيه الدواوين , وازدهرت فيه الأجناس الأدبية إلا أن الموضوع ما يزال بحاجة إلى بحوث ودراسات تضيء جوانبه , وتكشف غوامضه , وتسبر أغواره , وتكشف خصائصه ومزاياه – ولا سيّما – تعلقه بالتصور الإسلامي الخالص .
وباستشرافي ورقة البحث هذه وجدتها تحاول جاهدة أن تكشف عن رؤية مميزة ومتميزة – حول هذا الموضوع – لا ترقى إلى الطموح الذي يطوف بخيالها , إلا أن عزاءها الوحيد أن الكتابة حول هذا الموضوع الذي عني به الأدب الإسلامي والأسلوب الفني الذي كان مثار إعجاب وتقدير يفرض عليها أن تتحدث عن كتاب الله تعالى وعن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم
والذي دعاني للكتابة في هذا الموضوع ؛ لأنني من أمة مسلمة هي خير أمة أخرجت للناس , وسدّها الله ريادة البشرية وقيادتها , والقوامة الفكرية عليها , ولقد رعينا هذه الأمانة حقبة مضيئة من الدهر , ثم تقاعسنا , وأخذنا نصدر في كثير من أمورنا عن تفكير أوربة ومدنيتها حتى كادت شخصيتنا تنحصر في المسجد والمواسم الدينية , فضلاً عن استيراد القيم والمنطلقات والتصورات المستوردة ابتغاء اللحاق بركب العولمة والفرنجة المتمدينة.
لا أخفيكم أن هناك أسئلة ملحة ثقال تحاك في صدري تكره كتماناً , وتطلب استفساراً , وتريد استيضاحاً , وتستدعي جواباً منذ سنين طويلة , واليوم أراها وقد استوى سوقي واشتد عمري تلح عليّ إلحاحاً .
لماذا نبدد طاقاتنا الأدبية ؟ لماذا نقتات ونعيش عالة على معطيات الغرب المغايرة لروحنا والمعادية لديننا وقيمنا ومثلنا ؟
لماذا لا تكون لنا هويتنا الكلية والشاملة النابعة من تصوّرنا لخالقنا ومن ثم للكون والحياة والإنسان ؟ لماذا لا تكون لنا مقاييسنا التي نتميز بها , ونمتاز بها عن غيرنا ؟ لماذا لا يكون لنا أدب يمثل شخصيتنا , ويعبر عن آمالنا وتطلعاتنا ؟ لماذا يمّم أدباؤنا إلى الغرب , وجعلوا الآداب الوثنية قبلتهم في المنطلقات والتصورات ؟
لماذا أصبح أدبنا غريب الفكر والقلم والزي والخلق ؛ افتتن بالتجريب , وشغف بالتجديد ؟
عليه صارت ورقة البحث تسلط الضوء على القصة الإسلامية عبر محاور ثلاثة هي :
القصة القرآنية , والقصة النبوية , وحاجتنا إلى القصة الإسلامية المعاصرة .
ولست أزعم أنني استقصيت القصة الإسلامية في الزمن الذي حدد لي ؛ فتلك غاية لا يدركها أمثالي , ولا أدعي أنني قلت كل ما يجب أن يقال , فالموضوع لا يزال بكراً والطريق إليه ما تزال محفوفة بالعقبات .
احتلت القصة مكانة مهمة في الآداب الحديثة , وقد دار حولها جدل طويل بين كتاب الأدب الإسلامي وانفرد بعضهم بكتابة أبحاث مستقلة حول هذا الموضوع منهم : نجيب الكيلاني في كتابه حول الأدب الإسلامي ويوسف العظم في مقالة له تحت عنوان نحو قصة إسلامية نشرها في مجلة الأفق الجديد الأردنية العدد الثالث – 1963م , وعقب عليها محمد خير الحلواني في مجلة حضارة الإسلام في مقالة تحت عنوان نحو القصة الإسلامية العدد التاسع وعقب على المقالين معاً محمد الحسناوي في كتابه في الأدب والأدب الإسلامي .
ولكن هل للقصة الإسلامية الحديثة أن تستقل بطبيعتها ومقوماتها الأساسية عن أختها القصة الفنية الحديثة التي استمدت شروطها من الغرب ؟ وإلى أية حدود يمكن أن تختلف القصتان , وإلى أية حدود يمكن أن تتفقا ؟
لقد ترددت على ألسنة المستشرقين تهم شتى حول العقلية العربية والخيال العربي كلها تنتهي إلى أن الخيال العربي سطحي وربما معدوم , والدليل : عدم وجود قصة فنية عربية قديمة .
لابد أن نذكر أولاً بأن أقدم قصة فنية غربية على الإطلاق – باعتراف نقاد الغرب – هي قصة { بامِلا } لرتشردسن , وقد كتبها عام 1748م , وتتأخر عنها أول قصة عربية فنية بالمعنى الغربي للفنية ما يقرب من قرن ونصف القرن .
إن طبيعة الإسلام الدينية والدنيوية المختلفة عن طبيعة الديانات الأخرى توجه كل الفنون التي يمكن أن تولد في تربته , وبصورة حميمية ملحة نحو الارتباط بالأرض والصدور عن الواقع الإنساني دون أن تسمح لهذه الفنون بالتحليق بعيداً عن الصدق الفطري الذي بثته الحكمة الإلهية في الإنسان , وأجرت عليه أمور معيشته ونظمت تبعاً له علاقاته مع السماء من ناحية , ومع الأطراف الإنسانية الأخرى ومظاهر الحياة المختلفة من ناحية أخرى .
وانطلاقاً من هذه الحقيقة ننظر إلى القصة الفنية الإسلامية لا على أنها تلك التي تستطيع التحليق بخيالها بعيداً عن أرض الواقع – مهما كان ارتباط هذا الخيال بالواقع وثيقاً في الأصل – ولكن على أنها القادرة على الارتفاع بالإنسان من أوحال الواقع وخبائثه إلى أزهاره وطيباته ومثله الرفيعة .
وتهدف القصة الإسلامية إلى إبراز الشخصية الإسلامية والوجه الحضاري للإسلام , فالقصة فنّ أدبي توجيهي ممتع له عناصره ومقوماته التي يجب الالتزام بها .
ويعرفها الكيلاني بأنها : (( الأداء الأدبي المحكم المؤثر الذي يركز على العبرة , وذلك في إطار جمالي محبب لا مثيل له , وهو ما يسمى بالجمالية أو المتعة الفنية , وهي وسيلة من وسائل نشر الدعوة )) .
وإذا انطلقنا في تعريفنا للقصة الإسلامية من هذه الحقيقة قلنا إنها { الواقع } ولا شيء غير الواقع , وللكاتب أن يتصرف في طرائق عرضه لهذا الواقع , وأن ينوع في أساليبه , وأن يلجأ إلى الخيال الجزئي – الصورة البيانية أو الرمز – للتعبير عن الواقعة الصغيرة – الحدث – التي هي جزء من الواقعة الكبيرة { القصة }, وله أن يفيد من شتى الاتجاهات الأدبية فيما يتعلق ببناء القصة أو لغتها أو طريقة عرضها .
والدعوة الإسلامية اليوم بحاجة إلى الاستعانة بكل سلاح ابتكره هذا العصر , وذلك لمقاومة خصومها الألداء , والدفاع عن وجودها المستهدف , وضمان استمرارها في الأرض .
ولا ريب في أن الأدب المقروء والمسموع والمرئي كان من أمضى الأسلحة التي حورب بها الإسلام والمسلمون في هذا العصر .
ولكن للأسف الشديد لم يقدروا سلاح الأدب حق قدره , ولم يعطوا الفنون الأدبية الحديثة – وعلى رأسها الفن القصصي – ما تستحقه من اهتمام , ولم يفطنوا إلى أن عليهم أن يحملوا عقيدتهم إلى الناس على متون الأدب القوية .
إن الدعوة إلى تجنيد الفن القصصي لخدمة العقيدة وجعل القصة مطية ذلولاً للتربية والتوجيه ليست فكرة جديدة استحدثتها طبيعة هذا العصر أو أمراً طارئاً على المسلمين اقتضته ظروف الحياة الجديدة وإنما هي أمر قديم عرفه المسلمون منذ كان الإسلام وليداً في مكة .
وحين نتحدث عن الاستفادة من القرآن الكريم في مجال الفن القصصي لا نقصد بطبيعة الحال أن يلتزم الفن القصصي الإسلامي بالقصص التي وردت في القرآن سواء في الموضوع أو في طريقة الأداء ولكنا نقصد أن يلتقط التوجيه الذي تحمله تلك القصص بمدلوله الواسع لا بمعناه الحرفي ويعمل في محيط هذا التوجيه .
وقد أورد القرآن الكريم كثيراً من القصص الذي يخبر عن الأمم السابقة وعن مواقفهم من رسلهم ومن موضوع الرسالة وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده والدعوة إلى إصلاح المجتمع والقضاء على ما فيه من آفات وفساد كالطغيان والعدوان وعدم الوفاء في الكيل والميزان وشيوع الفاحشة وغيرة الحسد والحقد وقطع الطريق .
وحين يعرض القرآن لهذا القصص بأسلوب متميز وفريد ذلك الأسلوب الذي تحدى به العرب وهم من أهل الفصاحة بل هم أربابها , تحداهم في مبناه ومحتواه فإنه إنما يصور مواقف تعليمية يقصد بها أن يغير سلوكهم من خلال عرض أحداث لها بدايات ولها مجريات وتتابع ولها نهايات ؛ فنجد على سبيل المثال أن القرآن الكريم يتحدث عن فرعون وقد طغى وادعى الألوهية ثم كانت نهايته أن أغرقه الله هو وجنوده في اليم (( فكذب وعصى , ثم أدبر يسعى , فحشر فنادى , فقال أنا ربكم الأعلى , فأخذه الله نكال الآخرة والأولى , إن في ذلك لعبرة لمن يخشى )) وهكذا لا يقف القصص القرآني عند عرض الأحداث وإنما ينتهي إلى وضع قيمة بنائية تعليمية وإرشادية يستفيد منها الأفراد والمجتمعات في كل وقت .
وتساق القصة في القرآن لتحقيق أغراض دينية بحتة ؛ إذ كان من أغراضها : إثبات الوحي والرسالة , فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئاً ولا كاتباً , ولا عرف عنه أنه يجلس إلى أحبار اليهود والنصارى , وبالتالي فقد ساق لهم في حديثه الشريف قصصاً كثيرة وفيرة , فقص عليهم قصة إبراهيم وإسماعيل وأصحاب الأخدود وقصة الأطفال الذين تكلموا في المهد وقصة أصحاب الغار وقص عليهم قصة الكفل وقصة ريح عاد وقصة الأقرع والأبرص والأعمى , وقصصا بلغت نحواً من مائة وخمسين قصة كما في الصحيحين .
وإذا استعرضنا القصص القرآني فإننا نجد ما يزيد على خمسين قصة , ومنها : قصة آدم , وقصة نوح وقصة إبراهيم وقصة إسماعيل وقصة موسى, وقصة يوسف وقصة عيسى وقصة مريم وقصة أصحاب الكهف وقصة أصحاب الأخدود وقصة ابني آدم ….
وكذا من الأغراض بيان أن الدين كله من عند الله من عهد نوح إلى عهد محمد صلى الله عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم – وأن المؤمنين كلهم أمة واحدة , وكثيرا ما وردت قصص عدد من الأنبياء لتثبيت هذه الحقيقة سواء أكانت القصة مجتمعة في سورة واحدة أم متقطعة في مواضع ومثال ذلك ما ورد في سورة الأنبياء عن موسى وهارون وإبراهيم ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وذي النون ومريم عليهم السلام .
كما سيقت القصة القرآنية لبيان أن الدين كله موحد الأساس , وتبعاً لهذا كانت ترد قصص كثير من الأنبياء مجتمعة كذلك مكررة فيها العقيدة قال تعالى في سورة الأعراف : (( لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ” ” وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ” ” وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ” ” وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره )) .
ولبيان نعمة الله على أنبيائه وأصفيائه كقصص سليمان وداود وأيوب وإبراهيم وعيسى وزكريا ويونس وموسى فكانت ترد حلقات من قصص هؤلاء الأنبياء تبرز فيها النعمة في مواقف شتى .
كذلك من الأغراض تنبيه أبناء آدم إلى غواية الشيطان وإبراز هذه العداوة عن طريق القصة أروع وأقوى وأدعى إلى الحذر الشديد .
وكان التصدي لمرض الترف غرضا ساميا عالجته القصة الإسلامية , قال تعالى : (( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين , فلما أحسّوا بأسنا إذا هم منها يركضون , لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون , قالوا يا ويلنا إنا كنّا ظالمين , فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين )) [ الأنبياء : 11-15] كذلك فإن من وظائف هذا القصص الإسلامي أن يعالج مشكلة القلق التي أصبحت في طليعة مشكلات إنسان هذا العصر في أوروبا وأمريكا والتي بدأت تهب ريحها علينا نحن المسلمون , ولا تتم هذه المعالجة إلا ببث الطمأنينة في النفوس إلى وجود الله والإيمان المطلق بقضائه وقدره لم يغفل القرآن الكريم هذا الأمر , ولم يترك المؤمنين يعانون هذه الحيرة في تفسير الأحداث التي لا يجدون لها تفسيراً , وإنما عالج ذلك كله في قصة موسى مع الخضر حيث :
(( قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً )) قال : (( إنك لن نستطيع معي صبراً , وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا )) قال : (( ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً )) .
قال : (( فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً )) (( فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها )) . قال : ” أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً )) .
قال : (( ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً )) .قال : (( لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً )) (( فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله قال أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً )) قال : (( ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً )) قال : (( إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً ))
(( فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه )) قال : (( هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً ))
(( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً , وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً , فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة وأقرب رحما , وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبراً ))
والانتصار للخير في صراعه الدائب مع الشر غاية سامية من غايات القصة الإسلامية وذلك عن طريق عرض مواقف ذلك الصراع , وخوض المعركة إلى جانب الخير حتى تعلو رايته , ومنازلة الشر وتعريته إلى أن تخضد شوكته . ففي قصة { هابيل } وأخيه { قابيل } نموذج رائع لهذا الصراع حيث رسمت هذه القصة صورتين لشخصيتين متباينتين :
إحداهما تمثل الإيمان وما ينبعث عنه من خير وحب وسلام ..والأخرى تمثل الكفر وما يصدر عنه من شر .
ولقد جلّى الحوار الذي دار بين الأخوين الملامح البارزة لشخصية كل منهما , وتمضي القصة إلى نهايتها المحزنة , لكن الخير ينتصر على الشر .
وأيضا فإن من غايات القصة الإسلامية معالجة الأوباء الخلقية والانحرافات الاجتماعية والدينية التي تجتاح بعض المجتمعات ؛ ذلك لأن الفرد حين يندمج في المجتمع الفاسد يكتسب من وجوده فيه قوة تشجعه على الاسترسال في المعايب والموبقات التي كان من شأنه أن يحجم عنها لو كان منفرداً , ولعل أعنف مثل على ذلك قصة { لوط } مع قومه , فلقد عشعش الفساد والشذوذ والانحراف في مجتمعهم حتى غدا الشر عندهم خيراً والمنكر معروفاً , ولم يبق في القوم رجل رشيد .
وتسعى القصة الإسلامية إلى تحقيق هدفها الرئيس وهو العمل على تثبيت قلوب المؤمنين بالله المتمسكين بشرعه , الذائدين عن دينه . ذلك لأن أصحاب العقيدة يلقون في هذا العصر من صنوف العنت ما يزلزل الصمّ الصلاب , وصدق رسولنا  إذ قال : (( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء )) قال تعالى : (( وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين )) .
كما يدخل في هذا الدعوة إلى الإصلاح ونبذ الأخلاق الفاسدة فهو جانب مكمل لجانب العقيدة والعبادة , ولكنه كان بارزاً في دعوات بعض الرسل حيث شاع الفساد في المعاملات والعلاقات بجانب الفساد في الاعتقاد , ويتضح لنا هذا الجانب في رسالة شعيب وفي رسالة لوط – عليهما السلام – يقول الله تعالى : (( ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها أحد من العالمين , إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون )) وقال : (( وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان )) . وتهدف أيضاً إلى بيان قدرة الله على البعث كقصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها , وقصة إبراهيم  حين سأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى .
وبيان عاقبة المكذبين وكافري النعمة كقارون وصاحب الجنتين وما جاء في قصة سبأ وما أصاب قوم عاد إرم ذات العماد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد .
ولتحقيق هذا كله فقد استخدم القرآن الكريم كل أنواع القصة , كالقصة التاريخية الواقعية المقصودة بأماكنها وأشخاصها وحوادثها ومثال ذلك قصة موسى وفرعون , وعيسى وبني إسرائيل , وصالح وثمود , وهود وعاد , وشعيب ومدين , ولوط وقريته , ونوح وقومه
كذلك استخدم القصة الواقعية التي تعرض نموذجاً لحالة بشرية كقصة ابني آدم إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يقبل من الآخر .
وكذلك القصة المضروبة للتمثيل والتي لا تمثل واقعة بذاتها , ولكنها يمكن أن تقع في أية لحظة وأي عصر من العصور ومثالها قوله تعالى في سورة الكهف : (( واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً )) الآيات .
و تنفرد القصة القرآنية بخصائص عامة منها :
الإيجاز التام الذي لا نعرف له نظيراً في آثار الأدباء والمفكرين , مهما سمت مكانتهم البيانية ومقدرتهم البلاغية والأدبية .
فالقرآن الكريم يعرض أنباء الأمم الغابرة وقصص الأنبياء في إيجاز بليغ مؤثر معجز .. ويسرد الأحداث كاملة في أقل القليل من الألفاظ مع إسقاط مئات من التفاصيل الجزئية البعيدة عن الغاية من القصة وجوهر الموضوع .
ومنها : الاكتفاء بجوهر الواقعة وعدم التوقف عند زمن القصة وتاريخ حدوثها وأسماء الأشخاص والمواضع .
ومنها : وحدة الغاية في كل ما ورد في القرآن الكريم من أنباء وأخبار وأحاديث … وهي غاية معلنة غير مضمرة تأتي خلال القصة حيناً وقبلها حيناً وبعدها حيناً , وقد ترد وحدها مع رباط يربطها بجملة من أنباء الرسل أو بأحد هذه الأنباء .
وهذه الغاية تتكون من عدة عناصر منها : أن الله واحد لا يتعدد , وأن قدرته غير متناهية , وأن المرسلين أسرة واحدة يكمل لاحقها سابقها ويتم آخرها عمل أولها , وأنهم جميعاً من البشر يصطفيهم الله لهداية خلقه , ويؤيدهم بالمعجزات , وأن ما يحدث للأنبياء على يد أقوامهم هو سنة من سنن الله الثابتة لأن حكمة الله تقضي بأن يتم نصر العقيدة بعد جهاد ومشقة , فيمحص الله المؤمنين , ويثيبهم على ثباتهم .
أما الخصائص الفنية للقصة القرآنية فأولها تنوع طريقة العرض :
فمرة يذكر ملخصاً للقصة يسبقها , ثم يعرض التفصيلات بعد ذلك من بدئها إلى نهايتها , وذلك كطريقة قصة { أهل الكهف } .
ومرة تذكر عاقبة القصة ومغزاها , ثم تبدأ القصة من أولها وتسير بتفصيل خطواتها , وذلك كقصة موسى في سورة القصص .
ومرة تذكر القصة مباشرة بلا مقدمة ولا تلخيص , ويكون في مفاجأتها الخاصة ما يغني . مثل قصة مريم عند مولد عيسى ومفاجأتها وقصة سليمان مع النمل والهدهد وبلقيس .
ومرة يحيل القصة تمثيلية فيذكر فقط من الألفاظ ما ينبه إلى ابتداء العرض , ثم يدع القصة تتحدث عن نفسها بوساطة أبطالها , كما في قصة إبراهيم وحواره مع ربه وأولاده في حوار طويل .
وثانية هذه الخصائص : تنوع طريقة المفاجأة : فمرة يكتم سر المفاجأة عن البطل وعن النظارة حتى يكشف لهم معاً في آن واحد , كما في قصة موسى مع أهله (( إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى , فلما أتاها نودي يا موسى , إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى , وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى , إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري , إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى .. )) وانظر : آية القصص 29وما بعدها .
ومرة يكتم السر عن أبطال القصة في حين يكشف للنظارة كما في قصة إبراهيم في تحطيمه للأصنام , فإنها معلومة للسامعين بينما أبطال القصة الحقيقيين يجهلونها (( وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين , فجعلهم جذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون )) فقد علمنا الفاعل بينما قوم إبراهيم يجهلونه (( قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين )) .
ومنه قصة أصحاب الجنة ( سورة القلم : 21-25) فقد ظللنا نحن النظارة نسخر منهم وهم يتنادون ويتخافتون , والجنة خاوية كالصريم , حتى انكشف لهم السر أخيرا ( قالوا إنا لضالون , بل نحن محرمون) , ومن ذلك أيضا أننا نعلم مدة نوم صاحب الحمار أنها كانت مائة عام في حين أنه كان يجهل ذلك , وكذا أهل الكهف وقيامهم بعد ثلاثمائة سنة وتسعا وعودتهم إلى المدينة لشراء الطعام وهم لا يعرفون حقيقة أمرهم ,فلقد ظنوا أنهم ناموا لحظة من اللحظات , أما السامعون للقصة فمعروف عندهم أنهم ناموا ثلاثمائة وازدادوا تسعا .
ومرة يكشف بعض السر للنظارة وهو خاف عن البطل في موضع , وخاف عن النظارة في موضع آخر في القصة الواحدة , كما في قصة عرش بلقيس الذي جيء به قبل أن يرتد إلى سليمان طرف عينه , وعرفنا نحن أنه بين يديه , في حين أن بلقيس ظلت تجهل ما تعلم , فلما جاءت قيل : أهكذا عرشك ؟ قالت : كأنه هو . ولكن المفاجأة الصرح الممرد من قوارير ظلت خافية علينا وعليها حتى فوجئنا معاً بقوله تعالى : (( قيل ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير )) .
ومثله قصة موسى وتربيته في بيت فرعون فهو معلوم للنظارة مجهول لأم موسى لأنها وضعته في التابوت ولا تعلم أين يستقر بينما قد علمنا مسير التابوت إلى بيت فرعون ولم تعلم أم موسى إلا بعد أن ذهبت أخته تقصه وبعد أن حرم الله عليه المراضع . أما حقيقة الرد فذاك أمر خاف علينا نحن النظارة وعلى البطل أم موسى . انظر : آية [ القصص : 7-13] .
وإما ألاّ يكون هناك سر بل يفاجأ البطل والنظارة بالموضوع دفعة واحدة من غير ترقب وانتظار كما في قصة نبي الله يونس حينما ركب في السفينة واستهم أهلها لم يكن يدر بخلده ولا النظارة أن السهم سيقع عليه ومن ثم فوجئنا وإياه بذلك (( فساهم فكان من المدحضين )) ونبأ الخصم إذ تسوروا المحراب فلم يكن داود ليعلم أن هؤلاء ملكين كريمين جاءا لمعاتبته وكذا النظارة .
ومرة لا يكون هناك سر , بل تواجه المفاجأة البطل والنظارة في آن واحد , ويعلمان سرها في الوقت ذاته وذلك كمفاجآت قصة مريم ابنة عمران حين تتخذ من دون أهلها حجاباً , فتفاجأ هناك بالروح الأمين في هيئة رجل فتقول : (( إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً )) نعم عرفنا قبلها بلحظة أنه الروح , ولكن الموقف لم يطل فقد أخبرها : (( قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً )) وقد فوجئنا كذلك معها إذ أجاءها المخاض إلى جذع النخلة : (( قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً , فناداها من تحتها آلا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً ))
وثالثة الخصائص الفنية في عرض القصة : تلك الفجوات بين المشهد والمشهد التي يتركها تقسيم المشاهد وقص المناظر بحيث تترك بين كل مشهدين أو حلقتين فجوة يملؤها الخيال ويستمتع بإقامة القنطرة بين المشهد السابق والمشهد اللاحق وهذه طريقة متبعة في جميع القصص القرآني على وجه التقريب .
ونجد قصصاً تعرض منذ الحلقة الأولى حلقة ميلاد بطلها كقصة آدم  – منذ خلقه – وفيها مظهر لقدرة الله , وكمال نعمته على آدم وبنيه .
ونجد قصصاً تعرض من حلقة متأخرة نسبياً , كقصة يوسف  حيث تبدأ وهو صبي , فيرى رؤيا , ويقصها على أبيه , وهكذا تمضي القصة في طريقها المرسوم بعد هذه الرؤيا .
ونجد قصصاً لا تعرض إلا في حلقة متأخرة جداً كقصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب – عليهم الصلاة والسلام – فلا تعرض قصصهم إلا عند حلقة الرسالة , وهي الحلقة الوحيدة التي تعرض من حياتهم ؛ لأنها أهم حلقة منها , والعبرة كامنة فيها .
والخصيصة الرابعة : هي التصوير , فالتعبير القرآني يتناول القصة بريشة التصوير المبدعة التي يتناول بها جميع المشاهد والمناظر التي يعرضها فتستحيل القصة حادثاً يقع ومشهداً يجري , لا قصة تروى ولا حادثاً قد مضى .
وهذا التصوير في مشاهد القصة ألوان : لون يبدو في قوة العرض والإحياء , ولون يبدو في تخييل العواطف والانفعالات , ولون يبدو في رسم الشخصيات . وليست هذه الألوان منفصلة , ولكن أحدها يبرز في بعض المواقف ويظهر اللونين الآخرين فيسمى باسمه . ولكن الواقع أن هذه اللمسات الفنية كلها تبدو في مشاهد القصص جميعاً . واقر الآيات من سورة مريم [ 16-35] , كذلك سورة يوسف .
أما الخامسة : فهي تكرار القصة الواحدة , ونعني بالتكرار أن ترد القصة الواحدة مكررة في مواضع شتى , ولكن هذا التكرار لا يتناول القصة كلها – غالباً – إنما هو تكرار لبعض حلقاتها , ومعظمه إشارات سريعة لموضع العبرة فيها , أما جسم القصة كله فلا يكرر إلا نادراً ولمناسبات خاصة في السياق .
ونضرب مثالاً على هذا النظام قصة موسى  إذ أنها أشد القصص في القرآن تكراراً , فقد وردت هذه القصة في حوالي ثلاثين موضعاً من القرآن العظيم , خلصنا من هذا الاستقصاء إلى نتيجة واحدة هي أنه ليس في القصص القرآني تكرار مطلق , وإنما فيه تكرار نسبي بمعنى أن الغرض الديني هو الذي يملي إعادة القصة , ولكنها في هذه الإعادة تلبس أسلوباً جديداً , وتخرج إخراجاً جديداً يناسب السياق الذي وردت فيه , وتهدف إلى هدف خاص لم يذكر في مكان آخر , حتى لكأننا أمام قصة جديدة لم نسمع بها من قبل .
وعلى الرغم من أن غرض القصة القرآنية ديني محض فإننا نستطيع أن نجد بعض العناصر البارزة قائمة في معظم القصص التي وردت في القرآن الكريم منها : عنصر الشخصية , والحوار , والصراع , ولو حاولنا تحليل كل من هذه العناصر لألفينا تنوعاً في رسم كل منها , وقد يصل هذا التنوع إلى حد التباين البعيد . فالشخصية قد ترد بصورة إنسانية عادية , وقد تكون شخصية مثالية , وقد تحمل الوجهين الإنساني العادي والمثالي في آن واحد .
ومهما تكن صورة هذه الشخصية فإنها بطبيعة الحال هي التي تحرك الأحداث وتضطرب بها , أو تقوم الأحداث نفسها بتحريك الشخصيات , أو تتساوق وتتوازن , فلا تطغى الشخصية على الحدث , ولا يطغى الحدث على الشخصية .
ومن نماذج الشخصية المثالية صورة إبراهيم  فلقد صورته صبياً يخلو إلى تأملاته ويبحث عن ربه : (( فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً , قال هذا ربي , فلما أفل قال لا أحب الآفلين , فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي , فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين , فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون , إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين ))
وصورته لنا وهو يحاور أباه في معبوده , ويقنعه أن يهجر عبادة ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنه شيئاً , وينهاه عن عبادة الشيطان لأنه يخاف عليه أن يمسه عذاب من الرحمن ويكون للشيطان ولياً , ويقف الأب من ابنه موقفاً غليظاً صلباً , ويبقى الفتى أديباً باراً محباً لأبيه فلم يتفوه أمامه بكلمة جارحة أو نابية , ولم يجبه إلا بقوله : (( سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً , واعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي )) .
وإبراهيم الهادئ الرزين الوقور في صباه وشبابه يبقى هو هو في شيخوخته , بل تزيده الشيخوخة وقاراً ورزانة وعقلاً : (( ربي إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون )) , ومثل هذا الهدوء والإيمان وطاعة الله تتجلى حين يرى في المنام أنه يذبح ابنه , فيلبي ويطيع , وتكون معجزة الفداء بذبح عظيم .
كذلك لو حللنا شخصية يوسف  , وما كان فيها من سمات تترجح بين الإنسانية والمثالية بين مطلع حياته , وفي كنف أبيه يعقوب  , وفي بيت عزيز مصر , ثم جلوسه أميناً على خزائن الأرض وحاكماً .
ومثل شخصية يوسف المتأرجحة بين الإنسانية والمثالية شخصية سليمان  وقصته مع بلقيس ملكة سبأ إنها تعكس مرة صورة الإنسان , وأخرى صورة النبي , وثالثة هذه وتلك دون أن تطغى واحدة على أخرى .
أما الحوار فإنه محرك للأحداث , ومصور للشخصيات , ومبلغ إلى الصراع , ومؤد إلى الهدف , ومظهر للمغزى , فقد يكون على صورة حوار ذاتي بين الشخص وعقله أو قلبه كما في قصة إبراهيم  وهو ينظر إلى الكواكب والقمر والشمس .
وقد يكون بين شخصيتين كما في حوار إبراهيم مع أبيه أو قومه . وقد يكون بين الشخصية وعنصر آخر كالجن أو الطير أو الشيطان . وقد يكون بين الخالق والمخلوق .
على أن هناك ملاحظة أساسية في طبيعة الحوار بمجمله , وعلى مختلف ضروبه هي أنه لا يوضع على ألسنة الشخصيات , وإنما ينطلق منها انطلاقاً طبيعياً أو تلقائياً دون أن يحس القارئ بشي من آثار الصنعة أو التكلف .
أما أسلوب الحوار فهو أسلوب القرآن ذاته إذ لا يهبط في ناحية , ويسمو في أخرى , تبعاً لاختلاف الظروف والشخصيات , ومستوى الأداء عند الكتاب من البشر العاديين .
أما الصراع فهو غالباً ما يكون في القصة القرآنية منسجماً مع المغزى العام للقصة , وهو الهداية والدعوة إلى الإيمان , وإنه لصراع – دائماً – بين عنصر الخير والشر , أو الحق والباطل , أو الإيمان والكفر , أو الفطرة السليمة والطوارئ التي تجنح بها ذات اليمين وذات الشمال .
هذا الصراع يكون حيناً صراعاً مادياً وحيناً آخر صراعاً نفسياً , وتتضح صورة اللون الأول بموقف موسى  مع السحرة , وتتضح صورة اللون الثاني بموقف إبراهيم  من الشمس والقمر والكواكب وعقله الباطني .
وإذا كان للصراع في القصة القرآنية من أثر فإنه يظهر في ربطه الأحداث من جهة , والشخصيات من جهة أخرى , والحوار من جهة ثالثة من جميع جهاتها , ويستولي عليها , ثم يمضي بها إلى غايته المرسومة .
خذ مثلاً قصة يوسف  , وانظر الصراع القائم بين نفس يعقوب  وأبنائه , وبين يوسف  وزوجة العزيز , وبين يوسف  وإخوته بعد تسلمه مقاليد مصر تجده قد أمسك زمام القصة من جميع أطرافها , وهو الذي قادها , ووجه أحداثها , وهو الذي كان الجاذب الكبير في مختلف أجزائها , على أنه لم يزد على طبيعته الأصيلة التي هي صراع الخير والشر , والحق والباطل , والإيمان والضلال .
وأحداث القصة القرآنية مترابطة ومتسلسلة وهي كلها في سلك واحد منتظم ففي قصة موسى نرى أن من أحداثها : ( قتله النفس ثم إقامته في مدين – ثم بعثته ) فترى أن هذه الأحداث يكمل بعضها بعضاً , وأن الحدث الثاني لاحق للأول وكالنتيجة له , فقتل موسى للقبطي أدى إلى حدوث الذعر والاضطراب في نفس موسى فأراد أن يزيل عنه ستار هذا الخوف ويبدد عنه هذا الذعر الذي لحقه ولن يكون ذلك إلا بمغادرته مصر إلى مدين وإقامته في عش الزوجية بعد أن تزوج إحدى بنات مدين , فإذا ما جاء الموعد المحدد لبعثته كانت نهاية خدمته التي قد قررها شيخ مدين صداقاً لزواج ابنته من موسى .
ومثلها قصة آدم : ( سجود الملائكة لآدم – امتناع إبليس عن السجود – طلبه النظرة إلى يوم الدين – سكنى آدم الجنة وزوجه – أكله من الشجرة – هبوطهم إلى الأرض ) . وكقصة مريم مع الملك , وقصة سليمان مع الهدهد ومع بلقيس .
وللنظم القرآني الكريم أفانين شتى تحكم توزيع الحوار والسرد في القصص الوارد فيه ؛ فطول القصة وقصرها ليس هو العامل الوحيد الداعي إلى بنائها على الحوار والسرد معا أو إقامتها على السرد وحده , فقد نجد قصة قصيرة جدا جاءت في آية واحدة ومع ذلك يختلط فيها الحوار والسرد معا كقوله تعالى : (( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن أتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين )) وجاء بعد هذه القصة مباشرة قصتان قصيرتان هما : قصة الذي مر على قرية [ البقرة : 259] , وقصة طير إبراهيم [ البقرة : 260] وقامتا على الحوار والسرد معا رغم قصرهما إذ جاءت كل قصة منهما في آية قرآنية واحدة .
وقد نجد قصة أطول نسبياً من القصص السابقة ومع ذلك تقوم على عنصر السرد وحده كقصة داود وسليمان في سورة الأنبياء [ 78- 82] , وقصتهما أيضاً في سورة سبأ [ 10-14] , وكهذه القصة التي يظهر فيها إعجاز السرد القصصي , قال تعالى : (( وإن يونس لمن المرسلين , إذ أبق إلى الفلك المشحون , فساهم فكان من المدحضين , فالتقمه الحوت وهو مليم , فلولا أنه كان من المسبحين , للبث في بطنه إلى يوم يبعثون , فنبذناه بالعراء وهو سقيم , وأنبتنا عليه شجرة من يقطين , وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون , فأمنوا فمتعناهم إلى حين )) .
ولكن الكثرة الكاثرة من القصص القرآني تقوم على المزاوجة بين الحوار والسرد معا في القصة الواحدة غير أن كل عنصر من العنصرين يأتي في مكانه اللائق فالحوار يأتي حين يتطلب أن يكون العرض حوارياً والسرد يأتي حين يتطلب أن يكون تقديم الحدث أو الشخصية سردياً روائيا , يقول تعالى : (( واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً , فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا , قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا , قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيا , قالت أنى يكون لي غلام , ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا , قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضيا )) . بدأت القصة سرداً روائياً تضمن بعض الأحداث المهمة , فمريم تركت ديار أهلها وخلت بنفسها في مكان بعيد , وبينها وبين أهلها حجاب لا تراهم ولا يرونها وحيدة فريدة ثم هي فتاة طاهرة عفيفة خجول يسيطر عليها ما يسيطر على مثلها من المشاعر والأحاسيس ثم ينتقل النظم القرآني البديع من السرد إلى الحوار المعبر عن شخصيتها ومشاعرها بكل سهولة ورقة وسلاسة وانسيابية . والسورة مجال رحب للتأمل .
والعقدة في القصة القرآنية حينما تشتد وتحار النفس في حقيقتها يأتي الحل الذي يزيل خفاياها وقد تجتمع العقد في القصة القرآنية ثم يعقبها التنوير دفعة واحدة كقصة موسى مع العبد الصالح في سورة الكهف ثم يأتي التشويق لمعرفة حل هذه العقد .
وأما القصة التي يأتي فيها الحل عقب العقد وتتوالى فيها العقد يعقبها الحل فقصة موسى منذ ولادته إلى حين بعثته إذ تشتمل على العقد التالية : ( وضعه في التابوت – قتل النفس – سقيه الماء لابنتي شعيب – موقفه من السحرة – النهاية العامة للقصة وكل عقدة يعقبها حل ) .
وقصة السيدة مريم البتول فالعقدة التي تقوم عليها القصة هي عقدة حملها حينما مسها الملك , وهنا يحار القارئ في هذا الحمل كيفيته وطبيعته , بدايته ونهايته , تطور أحداثه , كل هذا يحتاج إلى نهاية تبدد طلاسم هذا الحمل ( فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا , قال إني عبد الله … ) الآيات .
وتتوافر شروط وعناصر القصة القصيرة في القصة القرآنية , قال تعالى : (( وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين , رب هب لي من الصالحين , فبشرناه بغلام حليم , فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين , فلما أسلما وتلّه للجبين , وناديناه أن يا إبراهيم , قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين , إن هذا لهو البلاء المبين , وفديناه بذبح عظيم )) .
في أقل من سبعين كلمة اكتملت القصة من حيث الكم , ومن حيث الزمن لحظة أب يهم أن يقتل ابنه ويتلّه للجبين , فيوحي إليه ربه قد صدقت الرؤيا فينقذ الابن . ولا عبرة هنا بالزمن الطويل الممتد بين وقوع البشارة بإسماعيل وبلوغه مع أبيه مبلغ السعي لأنه خارج عن إطار الحدث الذي صورته القصة , بل ساعد هذا الزمن على تعميق لحظة الحدث .
والموضوع ذو وحدة واحدة لم تحد عن القصة قيد شعرة , أب يقول لابنه إن الله قد أوحى إليّ أن أذبحك , فيقول الابن في روعة الإيمان والاطمئنان : افعل ما تؤمر به . و يدير الحدث شخصان اثنان لا ثالث لهما .
وتبدأ القصة بقوله تعالى : (( رب هب لي من الصالحين )) , وتسير الأحداث إلى قمة العقدة في قوله تعالى : ( افعل ما تؤمر – تله للجبين ) وتأتي لحظة التنوير أو النهاية السعيدة بقوله تعالى : ( وفديناه ) .
أما القصص النبوي فإن من أهم وأبرز الملامح الفنية في الحديث النبوي الشريف استخدام الفن القصصي , وقد جاء الحديث زاخراً بالنصوص القصصية , حيث تحتوي بعض المصادر أمهات كتب الحديث الكبرى مائة وتسعة وثلاثين نصاً قصصياً .
وقد كشفت تلك النصوص عن مدى احتفال الرسول صلى الله عليه وسلم البالغ بالبناء الفني لهذه القصص , واهتمامه بتحقيق البنية القصصية العامة فيها .
والقصة النبوية هي كقصة الأصل – القرآن الكريم – لا تجنح إلى الخيال الشارد ولا للتعمق المفلسف الغامض ولا للسطحية الفارغة الجوفاء المغطاة بقشرة خالية من بديع العبارة وليست هي القصة التي وضع الغرب لها عشرات القواعد والشروط .
لكن هي القصة التي تقوم على سلامة فطرة القاص , وتكفي كل الكفاية في تقرير الغرض , وتروع كل الروعة في تسلسل الأحداث ولباقة الحوار وتصوير الأشخاص , وتنبع فكرتها من أجناس النفوس الكائنة الحية فلا تعالج أنماطاً في عالم مجهول , جاءت تلك القصص على صورة سوية من الإبداع القصصي بحيث يتحقق فيها الهيكل العام للقصة والنسيج المتلاحم والعناصر الفنية , ويقوم الهيكل العام للقصة النبوية في الأغلب على ثلاث دعائم تشكل إطارها الذي يحدد شكلها القصصي وتتمثل هذه الدعائم في : البداية والوسط والنهاية .
وهذه التركيبة الهيكلية قائمة على أساس من الترابط العضوي الذي يشد بعضها بعضاً بحيث يحس قارئ القصة بأن هناك خيوطاً منظورة وغير منظورة تؤدي وظيفتها في تحقيق التلاحم بين دعائم الهيكل الثلاث .
وقد قام نسيج القصة النبوية بوظيفته في تحقيق التشابك والترابط لبناء القصة , فالأسلوب بكل مظاهره والحبكة بسائر عناصرها , والمشكلة بما تحمله من تعقيد وصراع , وعناصر القصة الأخرى من شخصيات وأحداث وحوار كل ذلك يقوم على خدمة الحدث أو الأحداث ودفع حركة القصة إلى النمو والاكتمال .
والقصة في الحديث النبوي خاضعة للغرض الديني في الموضوع وطريقة العرض وإدارة الأحداث , ومع ذلك فهذا الخضوع للغرض الديني لم يمنع من أن تبرز فيها الخصائص الفنية من مخاطبة العقل والوجدان في عرض المواقف والحوادث تحقيقاً لهدفها الإقناعي والإمتاعي معا , وقد نشأ عن ذلك آثار فنية كالإلحاح على المادة القصصية الواحدة بتكرارها , والاكتفاء في عرض القصة بما يحقق الغرض , و بث التوجيهات الدينية في سياق القصة .
وقد تمثلت أغراض القصة النبوية في غرضين ساميين : الدعوة الإسلامية والتربية وبدت في عدة وسائل كالتعليم والترغيب والترهيب والموعظة والتوبة والتسرية عن المسلمين , وقد جاءت على ثلاثة أنواع : القصة الواقعية للرسول صلى الله عليه وسلم منها تجارب ذاتية وقعت له صلى الله عليه وسلم كقصة الإسراء والمعراج ومنها قصص وقعت له في المنام .
والقصة التمثيلية التي يسوقها الرسول صلى الله عليه وسلم لتوضيح قضايا كلية أو حقائق ذهنية مجردة كقصة فاقد الراحلة , فالفكرة شدة فرح الله سبحانه وتعالى بتوبة العبد …
والقصة الغيبية وهي عدة أنواع منها : القصة التاريخية ( وهي تعرض في سياق أدبي يصور الحدث التاريخي في صياغة فنية مؤثرة ) كقصة المقترض ألف دينار .
و قصص المستقبل ( عن أحداث تقع في نهاية الزمان ) . و قصص البعث واليوم الآخر وقصص من عالم الغيب ( تتحدث عن أمور غيبية خاصة تحدث في الواقع غير المنظور للإنسان ) .
وموضوعات القصة في الحديث من النوع الذي يثير في القارئ كثيراً من الانفعالات , ولها تأثيرها في طريقة الأداء القصصي , ولها عمقها وغناها : في العقيدة وفي النبوة , وفي القيم الإسلامية في الإنسان { خيره وشره قوته وضعفه } , وفي الحياة والممات , وإرهاصات الساعة والبعث والجزاء …
ومن النماذج القصصية التي نشير إليها مشفوعة بمظانها على النحو الآتي : قصة شق الصدر , سنن الدرامي 1/ 17 . قصة المعراج , صحيح البخاري 5/ 66-69. قصة لمن هذا القصر ؟ , سنن الترمذي 5/ 620. قصة فاقد الراحلة , صحيح مسلم 4/ 2104. قصة المستأجر والأجراء , صحيح البخاري 3/ 118-119. قصة النذير العريان , صحيح البخاري 8/ 126. قصة سارة والملك , صحيح البخاري 3/ 105-106. قصة جريح , المسند ( شاكر ) 15/ 209, والبخاري 4/ 201-202. قصة { الثلاثة المبتلون } صحيح البخاري 4/ 208-209. قصة الغار والصخرة , المسند ( صادر ) 4/ 274-275, صحيح البخاري 3/ 104-105. قصة قاتل المائة , صحيح مسلم 4/ 2118. قصة أصحاب الأخدود , صحيح مسلم 4/ 2299-2301. قصة الماشطة , سنن ابن ماجه 2/ 1227-1228. قصة المؤمن والدجال , صحيح مسلم 4/ 2256. قصة أمتي يا رب , صحيح البخاري 6/ 105-107. قصة الصراط , صحيح البخاري 1/ 204-205. قصة سوق الجنة , سنن الترمذي 4/ 685-686. قصة البطاقة , سنن ابن ماجه 2/ 1437. قصة الأسئلة الثلاثة , المسند ( صادر ) 4/ 295-296. قصة الاحتضار , سنن ابن ماجه 2/ 1422-1424.
أما الشخصيات في القصة النبوية من حيث ذاتها فتتنوع إلى : شخصيات بشرية : ( أنبياء – رجال ونساء عاديون – جماعات وجماهير ) . وشخصيات غير بشرية : ( الملائكة الكرام – حيوانات وطيور وجمادات – الجن – الشيطان ) . وشخصيات معنوية مثل : العمل الصالح – العمل الطالح – الموت ) . وتتنوع من حيث تكوينها إلى ما يلي : ( شخصيات مسطحة – وشخصيات نامية ) .
والصراع في غالبية القصص النبوي بين قوى الخير وقوى الشر في النفوس , وتتصاعد أحداث القصة حتى تبلغ الذروة والقمة في الإلغاز والتعقيد وهو ما يسمى بالعقدة , وقد تبدو هذه العقدة في المقدمة إلا أن الحديث النبوي يسيطر على نشاط السامع وانفعالاته حتى النهاية عن طريق العقد وتتابع المفاجآت وظهور الخوارق إلهاباً للقارئ وتهييجاً للسامع لاستدامة تدفق نشاطه وذلك في مثل قصة الثلاثة والغار , والتي بنيت على السرد القصصي والحوار .
وأما الحدث في القصة النبوية فهو روحها , وقد اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بالحدث ؛ لأهميته في بناء القصة من ناحية , ولأهمية الحدث ذاته في البيئة العربية , ولما له من تأثير في المتلقين .
كما أن الحوار عنصر مهم في بناء القصة النبوية , ونجده ينتشر في معظمها , وهو يبرز من خلال المواقف في القصة , وله عدة وظائف فيها , حيث يساعد في رسم الشخصية وتطوير الأحداث وتعميقها . كما يساعد على تصوير مواقف معينة , ويخفف من رتابة السرد , ويكشف أحياناً مغزى القصة هذا إلى جانب ما يضفيه على القصة من واقعية .
وكان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يستهل حواره القصصي مع أصحابه بحديث مثير لا يخلو من التشويق والإثارة ؛ لقسر السامع على الانتباه كقوله في حديث البطاقة : (( إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة )) .
وثبت في سنن ابن ماجه عن أبي هريرة  عن رسول الله  قال : (( اشترى رجل ممن كان قبلكم عقاراً من رجل فوجد الذي اشترى العقار جرة فيها ذهب , فقال له الذي اشترى العقار : خذ ذهبك عني إنما اشتريت العقار , ولم ابتع منك الذهب , فقال بائع الأرض : إنما بعتك الأرض وما فيها , فتحاكما إلى رجل , فقال الذي تحاكما إليه ألكما ولد ؟ فقال أحدهما : لي غلام , وقال الآخر : لي جارية , فقال : انكحا الغلام الجارية , ولينفقا على أنفسهما منه وليتصدقا ))
إن هذه الأقصوصة الرائعة التي تغني عن كلام كثير في شرح معنى النزاهة والتعفف مما يجب أن يتحلى به المسلم المؤمن الغيور على دينه , الحريص على الفرار من تملك مال لم يبذل فيه جهداً , ولا يرى لنفسه فيه حقاً , فانظر حرص الرجلين كليهما في القصة على أن لا يأخذ كل منهما ذلك الذهب الملتقط من الأرض , ثم انظر كيف أنهى القاضي تلك الخصومة بأن لم يملك أحداً منهما ذلك المال , وإنما جعله مكافأة في الجمع بين رجل وامرأة في الزواج والتصدق بالباقي لوجه الله .
إن أروع ما في هذه القصة بساطة الأداء اللغوي و موضوعيته , والتعبير السهل السليم عن مضمون نفيس كريم .
وقد جاءت الألفاظ فوق سهولتها واضحة غاية الوضوح حيث يتطلب ذلك أسلوب القصة مما يبعث على متابعة أفكارها واستجلاء أغراضها , فلم يكن في الألفاظ ما تصدق عليه سمة الغرابة والتعقيد .
وقد سلكت الأقصوصة تعبير الحوار حيث يقتضي ذلك موضوعها مما ينشأ عنه نشاط السامع وملاحقة الأحداث التي ترمي إليها , ويتبين ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : (( فقال له الذي اشترى العقار …. فقال بائع الأرض … فتحاكما إلى رجل فقال ….فقال أحدهما لي غلام , وقال الآخر لي جارية ))
وقد بدأ صلى الله عليه وسلم أول القصة بمدخل مشوق يستدعي الانتباه والإثارة (( ممن كان قبلكم )) وهنا يتطلع السامع إلى ما سيلقى إليه من شأن , ثم يأتي الختام متلائماً معناه مع مبناه فقال : (( انكحا الغلام الجارية …)) فقد جاء الختام بما يناسب أسلوب القصة من اعتمادها على خاتمة تبقى النفس مشرئبة لنهاية شأنها فيستفرغ الخيال قواه ملاحقاً خبرها , وما يترتب على أبطالها من نتائج )) .
فالقصص النبوي قصص قصير هادف , ينبع من التصور الإسلامي , والواقع التاريخي , ويمثل الصراع بين قوى الخير والشر في النفوس يزكي جانب الخير ويحث عليه عن طريق غير مباشر , وهو بيان جزاء .
وهذا القصص النبوي يعتمد على المقدمات القصيرة الخاطفة أحياناً , وقد تبدو العقدة في المقدمة , ويتخذ من تصعيد العقد وتتابع المفاجآت وظهور الخوارق تشويقاً للسامع والقارئ , وإثارة وإلهاباً للمشاعر والأحاسيس .
كما ترى الحوار والحكاية يشتركان في تكوين المشاهد تكويناً رائعاً , وكل قصة على قصرها يمكن أن تحول إلى موضوع تمثيلي طريف , له خطره في خلق الوعي الديني وتقويم القيم السلوكية في المجتمع . (( فعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان فيمن كان قبلكم رجل يسمى الكفل وكان لا ينزع عن شيء فأتى امرأة علم بها حاجة , فأعطاها ستين ديناراً فلما أرادها على نفسها ارتعدت وبكت ! فقال : ما يبكيك ؟ فقالت : لأن هذا عمل ما عملته قط ! وما حملني عليه إلا الحاجة ! فقال : أتفعلين أنت هذا من مخافة الله تعالى ؟ فأنا أحرى بذلك فاذهبي ولك ما أعطيتك ! و والله لا أعصيه بعدها أبداً فمات من ليلته ! فأصبح مكتوباً على بابه أن الله تعالى قد غفر للكفل فعجب الناس من ذلك حتى أوحى الله إلى نبي زمانهم بشأنه )) .
هذه سبعة أسطر , سماها ما شئت : قصة , أقصوصة إلا أنها تجمع معالم القصة الهادفة وسماتها , وتدور بين الحكاية والحوار , وتبنى على بطلين اثنين هما على النقيض , صراع بين الخير والشر , بين الطهر والخطيئة .
وتبدأ العقدة عند الكفل , حيرة – دهشة – ذلة – يسأل فيجيئه الحل , ولكن لا يتلوه في نفسه الصراع إنما يتلوه ثورة حزم وغضبة عزم ( والله لا أعصيه بعدها أبداً ) وينطق آخر سطر من القصة بحل آخر العقد المتأزمة في نفوس السامعين نبي زمانهم يخبرهم بشأنه .
والأسلوب في جميع قصص النبي صلى الله عليه وسلم هو أسلوب القصة الذي يحلو فيه الإطناب بتكرار بعض العبارات ولكنه مع ذلك – كما شاهدنا – موجز محبوك , جيد الفصل والوصل , متماسك النظم
وجانب الإيحاء والرمز في القصص النبوي من أدق خصائصه , فهو لا يسهب في الوصف , ولا يعنى بتحديد الزمان ولا المكان , وإنما تصبح القصة نموذجاً سلوكياً يتكرر في كل زمان وفي كل مكان .
ونحن حينما نتحدث عن القصة الإسلامية المعاصرة نعتد بتراثنا ؛ ذلك التراث الذي صنعته يد البشر وأنتجته قرائحهم , إذ يمكننا أن نستفيد منه كثيراً في تطوير فن القصة الإسلامية من الناحية الجمالية , فقد بدأ العديد من الأدباء يستفيدون من هذا التراث , وحتى أولئك الذين لم يعرفوا بتوجههم الإسلامي لجأوا إلى أساليب الحكاية الشعبية وطرق الأداء التي وردت في كتب الحديث والرواية والتاريخ .
إن ما يهمنا هو تأصيل القصة الإسلامية جمالياً وفنياً , وعدم الانشغال بمعارك جانبية لا طائل تحتها في الوقت الحاضر . ونحن نرى أنه من المبكر الحكم على القصة الإسلامية بل لا بد أن نفسح أمامها المجال , ونفتح الآفاق لكتاب القصة الإسلاميين لكي ينهلوا من ينابيعها .
خذ مثلاً قصة ( عمر يظهر في القدس ) كنموذج فريد , هذه قصة من قصص الكاتب الإسلامي الدكتور نجيب الكيلاني أحد رواد القصة الإسلامية كتبها عقب هزيمة يونيو 1967م , وهو يطرح من خلالها التصور الإسلامي للقضية الفلسطينية من خلال بعث الماضي الإسلامي العظيم حيث يظهر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه – في القدس المحتلة من خلال رؤيا يراها شاب فلسطيني فدائي .
وكأن الكاتب يقارن بين ما كنا فيه حينما تسلم عمر- رضي الله عنه – مفاتيح القدس وما صرنا فيه من هوان ومذلة يرتع في أرجائها أعداء الله , ومن ثم فإن الكاتب ينتقد الواقع الذي كان نتيجته هذه الهزيمة المذلة , ثم يقدم الحل البديل . وما من شك في أن القصة مستمدة من أهم القضايا الإسلامية المعاصرة يقول الكيلاني : ( وكان لابد من البحث عن صيغة جذابة مؤثرة تحفز الشباب للبحث عن أوضاع أمتهم الإسلامية المعاصرة من خلال أداء متقبل يستهويهم ويشدهم شداً , وهنا ورد استخدام القصة كأسلوب أمثل لهذا الهدف ) .
وفي هذه القصة الخيالية يظهر عمر – رضي الله عنه – برفقة شخصية معاصرة ويتجول الخليفة في أرجاء المدينة حيث لفت نظره ذلك التطور الحضاري الذي طرأ عليها , وبهره ما رأى من هذه المخترعات الحديثة , ولكن يروعه ما حاق بالمدينة وأهلها مما أحدثه اليهود وقد أجرى مع الخليفة  حواراً صحفياً , كما أن مرافقه يقارن بين حال المدينة في عهد عمر  وما آلت إليه في عصرنا الحديث موضحاً أسباب الهزيمة التي أدت إلى هذه الحال .
وفي القصة يناقش الخليفة العظيم المسلمين واليهود والفدائيين والشيوعيين , ويعقد ندوات مناقشة في المدارس والمساجد وفي دور الصحف .
والقصة { الرؤيا } تجسد صورة الواقع الفلسطيني المرير الحافل بكل مظاهر الموت والجنون وتبرز الهم الفلسطيني إزاء قضيتهم , وتؤكد الضياع الذي يعانيه هذا الشعب عبر حقب التاريخ
وقد وفق الكاتب إلى حد كبير في عنونة الرواية بهذه العتبات السيميائية , فإن أول ما يلامس أسماعنا مفردة ( عمر ) فلم يكن اختيار هذه المفردة اعتباطيا أو تعسفياً بل هناك علاقة وثيقة بين العنوان وبين النص علاقة تناغم وانسجام في إطار دلالي كبير يستقطب كل السياقات النصية , فدلالة عمر ترمز للقوة والعزة والكرامة والشموخ والرفض المطلق للاحتلال والتسليم , ولم يضف إلى هذه المفردة ما يبيّنها أو يعرّفها كالفاروق أو الخليفة أو أمير المؤمنين أو ابن الخطاب أو نحو ذلك بل أغفل هذا كله لثقته بأن لفظ عمر كاف واف شاف ليكون عنوان العنوان في الرواية . ويدل الفعل المضارع ( يظهر ) على الحضور الآني للأمة الإسلامية , وتضفي دلالة القدس على العنوان صرخة التخاذل والتقاعس عن واجب الجهاد والتحرير فمنذ الوهلة الأولى والمكان يمثل حضوراً روائياً ساطعاً إذ جعل الكاتب من المكان مركز النسيج الروائي لروايته فالقدس حاضرة في سطور الرواية بكثافة من خلال مساجدها وقراها ومدنها ومسمياتها وطرقها , كما أن القدس تجسيد للهوية والاحتلال والتحدي والمجابهة والماضي والحاضر .
كما وفق الكاتب في استدعاء شخصية أمير المؤمنين عمر  البعيدة عن الزيف والقلق والخوف والتردد بهذه الحيلة التي نجح فيها ؛ حيث جعل القصة بعيدة عن التلفيق والزيف والتضليل لأنها – حلم / رؤيا – شاب فلسطيني مهموم يعيش في مدينة القدس ليعرّف القارئ بما حدث إثر الهزيمة التي لحقت بالعرب والمسلمين وأدت إلى هذا الضياع .
وشخصية عمر هي الشخصية المحورية التي تمثل بؤرة التجربة وهي الشخصية المناسبة لارتباطه  بمدينة القدس التي كان أول فاتح لها في العصور الإسلامية . وكذا شخصية الراوي الشاب الفدائي الخائف المهزوز المنهزم المستلب الخنوع . وأما الشخصيات الثانوية فهي شخصيات مهمة ساندت الشخصية المحورية البطل , ودارت في فلكها , كشخصية راشيل وعشيقها إيلي وشخصية الأم والطبيبين والممرضة .
ولكي يقرب لنا الكاتب صورة المسلم ويجعلها واقعية , لها ملامح الحياة الحقيقية الملموسة , وبغية إزالة الغرابة والخيال لجأ إلى المزج بين واقع العصر وواقع التاريخ , ومن الطرافة والجرأة معاً أن يلجأ الكاتب إلى الخيال ليلبسه أثواب الحقيقة عندما استنطق التاريخ في أجلى صورة وأنصع بيان , واستدعى من أجل ذلك بعث الشخصية الرائعة التي أعطت أروع مثل عن المسلم .
ولغة الكيلاني تبدو فصيحة وأسلوبه يناسب الكتابة القصصية , وإن كان يميل في بعض الأحيان وخاصة في حواراته إلى الخطابية وأسلوب الوعظ الذي أثر على فنية القصة .
حقاً لقد صورت القصة واقع المسلمين وهمومهم المعاصرة وقارنت بين الواقعين الماضي المشرف ماضي الريادة والقيادة والحاضر الغص بالتمزق والتفرق والتشرذم والانسلاخ والتبعية كشفت عن صور من مآسينا وأمراضنا , وصور من الكيد والقهر والسلب للمسلم الغريب في هذا العصر على يد المسخرين والممسوخين لتنفيذ المخطط اليهودي في العالم الإسلامي كله .
وللكاتب جهود متميزة في هذا الجانب , حيث قدّم العديد من القصص التي استمدها من القضايا الإسلامية المعاصرة مثل : { رمضان حبيبي } والتي تتحدث عن انتصار العرب والمسلمين في حرب رمضان المجيدة , و { ليالي تركمستان } التي تتناول هذا البلد الإسلامي , و { عذراء جاكرتا } التي تمثل صراع المسلمين مع الشيوعيين في إندونيسيا , و{ عمالقة الشمال } التي تناول فيها أحوال المسلمين في نيجيريا من خلال الحرب الأهلية , و{ الظل الأسود } التي صورت ما حدث للإمبراطور إياسو ملك الحبشة الذي أسلم فحيكت المؤامرات ضده حتى انتهى الأمر بالإطاحة به , وتولى هيلاسلاسي الحكم بعده . وقصة { رحلة إلى الله } التي تمثل جيلاً من محبي الإسلام الذين اختلطوا بالدعاة , منهم الصادق الواعي الذي زادته المحنة ثباتاً وتبصراً , ومنهم من ضعف عن ملاقاة المحنة فركض إلى الطغاة , ومنهم من انكفأ على نفسه ورأى أنه لا بد من المهادنة , فيا معشر القصاص كلي رجاء أن تصدروا عن تصور إيماني شامل في كل ما تكتبون , وأن ينبثق عن أقلامكم أجود النتاج الوجداني الراقي بعيدا عن التبعية والحيرة واللهاث وراء النزعات الأجنبية الضائعة …. حرر في 20/ 4/ 1437هــــ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى