المقالات

هل ما زالت حروب الحداثة والأديان مستعرة؟

لن يكلفك الأمر كثيرًا كي تقنع أحدهم بأن الحداثة اجتثت الناس من ظلمات الجهل المعرفي إلى نور وشمس العلم الساطع! ستكون محقًا وأنت تبرر كيف أن عصر الأنوار وفجر المعرفة، مع كوبرنيكوس وجاليليو جاليلي، كان إيذانًا بإسقاط دعوى الكنيسة بأن ابن الرب هبط في مركز الكون، وهي الأرض، ليتضح بعد سنين، بالدليل العلمي المشاهد، أن الشمس هي المركز، وأن الكواكب تدور حولها!

ولن يكلفك الأمر كثيرًا لكي تقنع الناس بأن الحداثة أنجبت فرانسيس بيكون وديكارت وسبينوزا ونيوتن، ثم تمطّت لتأتي بنسبية آينشتاين والمنطق الرياضي لراسل ووايتهد، وصولًا إلى فيزياء الكون والرمز ستيفن هوكينغ. سيصفق الجميع للفكر الحداثي، لا سيما وهم ينعمون بالبيوت الفارهة والمواصلات السريعة وتكنولوجيا الاتصالات المتقدمة والصحة والتعليم!

لكن سيكلفك الأمر كثيرًا حينما تحاول أن تضع الفكر العلموي الحداثي في مواجهة شنيعة مع الإيمان وقضايا التسليم! لا تحاول أن تعيد تجربة العدمية لآرثر شوبنهاور، ولا مطرقة فريدريك نيتشه، بل ولا تحاول أن تنال من الروحانيات الدينية على الطريقة السارترية أو السخرية الراسلية، أو حتى التشكي على النهج الكاموي. لأنك حينما تفعل، فأنت تنزلق في أخطار متعددة، يهمني منها أمران:

الأول: أن متبعي الأديان السماوية يملكون قناعات فيزيائية وميتافيزيقية كبيرة لا يُستهان بها. أصحاب الأديان السماوية لم يكونوا (فيزيائيًا) معادين لقوانين الكون الكيميائية والفيزيائية والبيولوجية، ففي الكتب السماوية ما يحث على العلم التطبيقي التجريبي، وفيها ما يعلي من شأن العقل والتعقل، دعك من القلة الذين أساؤوا فهم كتبهم السماوية، فالعبرة بالمحتوى لا بفهم ناقل المحتوى! ببساطة، هم يعترفون، مثل العلموي، بالعقل، بينما يقف العلموي متشنجًا في حالات كثيرة، ولا يعترف لهم بقيمة الروح ولا قيم الإيمان! أيضًا، أصحاب الأديان يمتلكون فهمًا (ميتافيزيقيًا) أراه أبعد من ميتافيزيقا الفلاسفة المبنية على رؤى أرضية ذاتية بحتة، لا تعترف بالروح، ولا بقيمة الحدس والتصديق واليقين الذي يربط الأرض بالسماء!

الثاني: أن أصحاب الأديان سبقوا عصور الحداثة بمراحل، وخاضوا تجارب التطور بدءًا من حضور الإنسان الهوموسابيان وصولًا إلى القرن الحادي والعشرين! وخلال هذه الحقب الطويلة من الزمن، أثبتت الأديان السماوية الحقة قدرتها على استيعاب مشاهد الحداثة والعلم والمعرفة، والبقاء والتعايش المقبول مع العلمويين المعتدلين والسلميين! نعم، هنالك حالات تاريخية نشبت فيها صراعات علمودينية بدأت متأخرة نسبيًا، لكنها ما لبثت أن تلاشت أمام سعة التقبل الديني الصحيح للمفاهيم الكبرى، مثل الاختراع والابتكار والتقدم والصناعة والتعليم الحديث والصحة والترفيه والعمل والتنقل. بل إنهما شكّلا سويًا ثنائيات تشبه ما قبل الحداثة في المسمى، وتخالفها في المضمون من حيث كونها ثنائية خلاقة تحقق سيرورة تفضي إلى مآلات إبداعية!

أعتقد أن الحديث اليوم عن ما يسمى صراعات علمودينية ليس أكثر من حديث مفزع عن حقبة تعادل قرابة ثمانية قرون، من القرن الثالث عشر وحتى أوائل القرن الحادي والعشرين! بينما يشير الواقع المعاصر، بشكل إجمالي، إلى وجود حالة من الذوبان لهذه المفاهيم التصادمية، في ظل ما يشهده الفكر الإنساني من نمو منظم وفهم مقبول وتبادلية مبهجة، فالأرض لا تحتمل مزيدًا من الانشطار، والبقاء للتعددية في كل شيء!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى