المقالات

طقوس وذكريات رمضانية تثير الشجون

كعادته، كاتبنا النوبي العظيم أبو الجعافر، يستطيع اغتنام المناسبات والتقاط موضوعاته التي يشد بها قارئه بفراسة وحرفية. فكانت كلمة “رمضان” على لسان النوبي القُح “أرمدان” أيقونة جميلة، إذ إن النوبي -كما ذكر- لا ينطق حرف الراء إلا مسبوقًا بألف. وكما نعلم، فإن حرف الراء يُعد معضلة عند البعض، حيث يعانون من لدغة في نطقه، إلا أن النوبيين أظهروا قدرًا من الفطنة والذكاء باستعانتهم بحرف الألف لإظهار حرف الراء. فهم ينطقون اسم “رقية” -حسب رواية الأستاذ جعفر عباس- “أرقية”، وكذلك “أرجب” بنفس الطريقة التي ينطقون بها “أرمدان”. وللمعلومية، فإن سبب نطق الفرنسيين لحرف الراء (R) كحرف الغين يعود إلى الملك الفرنسي لويس العاشر، الذي كان يعاني من لدغة في نطقه لحرف الراء، مما كان يوقعه في حرج شديد عند خطبه أمام شعبه. لذا، أصبح الفرنسيون ينطقون الراء غينًا حتى لا يحرجوا مليكهم.

أثار أشجاني أبو الجعافر بحديث ذكرياته الرمضانية في جزيرة “بدين” النوبية شمال السودان على حدود مصر، وكيف غاص في أعماق ذاكرته مستعيدًا سنوات طفولته وصباه في ربوع ذكريات شبابه، حيث أهله وعائلته النوبيون. وأتذكر معه ما أثار شجوني وأحزاني من ذكريات الأستاذ جعفر عباس.

رمضان، حقًا، يهل علينا وتحضر معه الذكريات والزمن الجميل بأشجانه وأحزانه. ما أبهى الليالي الرمضانية، وما أجمل المسامرات واللقاءات فيها! ففي مثل هذه الأيام، تتداعى إلى الذاكرة الكثير من المواقف والحكايات، ونتذكر الأماكن والشخصيات التي كان لها حضورها وبصمتها الرمضانية وما التصق بها من حكايات. وكلما عادت بنا الأيام وعاد رمضان ليبلل أرواحنا بروحانياته واستلهاماته، تذكرناهم، وفاضت الذاكرة بالذكريات والحكايات لأماكن لا نزال نشم ترابها، وشخصيات نكاد نلمس عبيرها وأصواتها، وتذكرنا مجالسهم بأحد.

عشت طفولتي في مكة، قرب المسجد الحرام، ولا تزال رائحة تراب أرض زقاق بيتنا القديم في “باب الدريبة” عالقة في الذاكرة والفؤاد، رائحة تذكرني بعبق له روحانيته، خصوصًا حين اعتدنا تناول (فكوك الريق) – الإفطار على حبات التمر وماء زمزم – في مواجهة الكعبة المشرفة، على المفارش المفروشة فوق الحصوات التي كانت تحيط بالمطاف.

وأتذكر سوق السويقة، الذي كان قريبًا من بيتنا، حيث كانت الحركة فيه غير عادية ليلة ترائي هلال رمضان، والناس في ترقب لسماع خبر ثبوت الرؤية من عدمه. كان يُسمع صوت هنا وصوت هناك، بين تفسيرات وتأويلات حول تمام الشهر أو بدء الصيام، وكان الناس يخشون أن يأتي خبر الرؤية متأخرًا، مما يسبب لهم ارتباكًا. وحدث في أحد الأعوام في الزمن الماضي أن استيقظ الناس كعادتهم مفطرين، فجاء رجال الحُسبة ومعهم رجال من الشرطة ليغلقوا المقاهي ومحلات الأكل والشرب، محذرين ومنادين بأنه قد ثبت متأخرًا ثبوت رؤية هلال رمضان. وكان العذر في تأخير الإعلان عن ثبوت الرؤية هو صعوبة الاتصالات والمواصلات.

كل عام وأنتم بخير، ورمضان مبارك على الجميع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى