المقالات

أمريكا لم تنتهِ… وترامب عاد ليحسم

لا يترك دونالد ترامب أحدًا غير مبالٍ. بالنسبة للبعض، هو المنقذ الذي أعاد لأمريكا هيبتها، وبالنسبة لآخرين، هو تهديد للاستقرار. لكنه في كل الأحوال بات حقيقة سياسية لا يمكن إنكارها. بنى ترامب قوته على الاستفزازات، والصور الرمزية القوية، والمعارك الحادة التي قسمت المجتمع الأمريكي، لكنه في النهاية نجح في تحقيق ما لم يحققه أي رئيس في التاريخ الحديث: العودة إلى البيت الأبيض بعد هزيمة انتخابية. لم يكن ذلك مجرد انتصار انتخابي، بل إعلانًا بأن أمريكا، على عكس ما يروج البعض، لم تضعف، بل تعيد تشكيل نفسها وفق قواعد جديدة، مدفوعة بشخصيات مثل إيلون ماسك، وأفكار تتحدى المنظومة التقليدية.

لطالما راود البعض حلم أفول الولايات المتحدة كقوة عظمى. منذ سبعينيات القرن الماضي، لم تتوقف التنبؤات حول “نهاية الإمبراطورية الأمريكية”. كتب ومقالات لا تحصى، ومفكرون وخبراء اعتبروا أن واشنطن تنهار تحت وطأة انقساماتها الداخلية، وأزماتها الاجتماعية، وصعود منافسين جدد، من الاتحاد السوفيتي سابقًا إلى الصين اليوم. يُقال إن أمريكا استُنزفت بحروبها، من فيتنام إلى العراق وأفغانستان، وإنها فقدت هيبتها أمام خصومها. ومع ذلك، تظل الحقيقة واضحة: الولايات المتحدة لا تزال هنا، بقدرتها على تجديد نفسها وإعادة تشكيل المشهد العالمي، اقتصاديًا وعسكريًا وثقافيًا.

لا يزال الطامحون في البحث العلمي والتكنولوجيا يقصدون جامعاتها ومختبراتها، وليس مؤسسات أخرى فقدت قدرتها على الابتكار. لا تزال الشركات الكبرى تنشأ هناك، وتغير مسار الاقتصاد العالمي، تمامًا كما فعلت “جنرال موتورز” في الماضي، وكما تفعل “تسلا” و”آبل” اليوم. في كل جيل، تنتج أمريكا نخبة جديدة من المخترعين ورجال الأعمال، تحافظ بها على تفوقها، ( دفيد روكفيلر ، بيل غيتس والان إيلون ماسك .)بينما ينشغل آخرون بإحصاء إخفاقاتها، متناسين أنها كلما واجهت أزمة، خرجت منها أكثر قوة.

عداء أمريكا ليس جديدًا. عبر التاريخ، كانت هناك موجات متكررة من الخطاب الذي يُحمّلها مسؤولية كل أزمة، ويصورها على أنها العقل المدبر وراء كل اضطراب سياسي أو اقتصادي في العالم . في كتابه الهوس المعادي لأمريكا، أشار جان فرانسوا ريفيل إلى أن بعض الأنظمة السياسية وجدت في مهاجمة الولايات المتحدة وسيلة فعالة لصرف الأنظار عن أزماتها الداخلية. يُقال إن وكالة المخابرات المركزية وراء كل انقلاب، وإن الاحتجاجات الشعبية ليست إلا مؤامرات تحركها واشنطن. هذا المنطق المريح يسمح للبعض بتبرير إخفاقاتهم، ويوفر لهم “عدوًا خارجيًا” يُستخدم لتعزيز التماسك الداخلي، بينما تتآكل أسس الدولة الحقيقية تحت وطأة الفساد وسوء الإدارة.

مع عودة ترامب، يجد كثيرون أنفسهم في مواجهة سؤال وجودي: كيف سيتعاملون مع أمريكا التي ترفض الأفول؟ يمكن للبعض التنديد بالهيمنة الأمريكية، والتحذير من فقدان السيادة، لكن بأي ميزانية ستموّل الدول المثقلة بالديون دفاعها؟ وبأي عقول ستبتكر إن كانت لا توفر لشبابها ظروف العمل والبحث ؟
الحقيقة أن ترامب فهم شيئًا مهمًا: أمريكا لا يمكن أن تستمر في الهيمنة دون أن تعيد بناء نفسها داخليًا. ولأنه أدرك ذلك، أعاد تشكيل خطابه ليخاطب في آن واحد الفئات المتضررة من العولمة والنخب التي تقود الثورة التكنولوجية.

في المقابل، هناك من لا يزال عالقًا في دوامة التردد، يتحدث عن المستقبل لكنه لا يمتلك الأدوات لصناعته. يرفض الانفتاح الاقتصادي لكنه يخشى العزلة، ينتقد التكنولوجيا لكنه لا يستطيع منافستها، يهاجم العقول المهاجرة لكنه لا يوفر لها بدائل. وفي الوقت الذي يبحث فيه البعض عن أعذار لتعثرهم، تواصل أمريكا تقدمها، وتعيد تشكيل نفسها وفقًا لمعادلات جديدة، لا تنتظر إذنًا من أحد. السؤال لا يتعلق ببقاء أمريكا القوة الأولى في العالم، بل بكيفية تفاعل الآخرين مع هذه الحقيقة.

حذامي محبوب

صحفية تونسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى