المقالات

هجر القرآن الكريم: دلالاته وأسبابه وسبل الوقاية منه

دراسة في ضوء قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}

يمثل القرآن الكريم دستور الإسلام ومعجزة النبي ﷺ الخالدة، وقد وصفه الله سبحانه بأنه {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89) وأنه {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (البقرة: 185). ومع ذلك، نجد أن هناك تحذيرًا واضحًا في القرآن من هجره، كما في قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (الفرقان: 30).
يتناول هذا المقال مفهوم هجر القرآن، أسبابه، أنواعه كما بينها الإمام ابن القيم، ثم يسلط الضوء على علاقة النبي ﷺ بالقرآن، وكيف تعامل الصحابة والسلف الصالح معه، وصولًا إلى سبل الوقاية من هجر القرآن.

أولًا: سبب نزول الآية

نزلت هذه الآية في سياق الحديث عن موقف المشركين من القرآن الكريم، حيث أعرضوا عنه، واتهموه بالسحر والكذب، ومنعوا الناس من الاستماع إليه. قال مجاهد وغيره من المفسرين إن المراد بـ “قومي” هنا هم مشركو قريش الذين رفضوا القرآن جملةً وتفصيلًا، بل حرّضوا الناس على الإعراض عنه، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26).

لكن مفهوم هجر القرآن لا يقتصر على مشركي قريش فقط، بل يشمل كل من يعرض عن القرآن، سواء بعدم قراءته، أو عدم تدبره، أو عدم العمل به، كما سنبين لاحقًا.

ثانيًا: مفهوم هجر القرآن وأقسامه عند الإمام ابن القيم

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه الفوائد:
*“هجر القرآن أنواع:
1. هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.
2. هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.
3. هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين.
4. هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
5. هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها.”*

وعليه، يمكن تصنيف أنواع الهجر إلى خمسة:
1. هجر تلاوته وقراءته: وهو عدم المداومة على قراءته، أو هجره هجرًا كاملًا.
2. هجر تدبره وفهمه: حيث يقرأ المسلم القرآن دون تأملٍ في معانيه أو محاولة فهمه.
3. هجر العمل به: أي عدم تطبيق أوامره أو اجتناب نواهيه، وهو من أخطر أنواع الهجر.
4. هجر التحاكم إليه: بعدم الرجوع إلى القرآن في الأحكام والتشريعات، واللجوء إلى مصادر أخرى مع إهمال حكمه.
5. هجر الاستشفاء به: حيث جعله الله شفاءً للقلوب والأبدان، فمن ترك التداوي به فقد هجَره.

ثالثًا: موقف النبي ﷺ من القرآن

كان النبي ﷺ هو النموذج الأكمل في العلاقة مع القرآن، فقد كان يقرؤه ويتدبره ويعمل به، وكان خلقه القرآن كما قالت عائشة رضي الله عنها. ومن أبرز ملامح علاقته بالقرآن:
• كان يتلوه بخشوعٍ وتدبر، ويبكي عند سماعه، كما ورد في حديث عبد الله بن مسعود عندما طلب منه النبي ﷺ أن يقرأ عليه، فلما بلغ قول الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا} (النساء: 41)، قال له النبي ﷺ: «حسبك»، فإذا بعينيه تذرفان الدموع.
• كان يكثر من تلاوته في صلاته ليلًا، فكان قيامه بالقرآن طويلًا، حتى إن بعض الصحابة قالوا: «كِدْنا نُفَرِّطُ»، أي من طول القيام.
• كان يطبق القرآن في كل جوانب حياته، فكان قرآنًا يمشي على الأرض.

رابعًا: الصحابة والسلف الصالح وعلاقتهم بالقرآن

لقد كان الصحابة رضي الله عنهم أعظم الناس اتباعًا للقرآن، ومن مظاهر ذلك:
1. حرصهم على تلاوته وحفظه: كان عبد الله بن مسعود يقول: «من أحب أن يعلم أنه يحب الله، فلينظر إلى حبه للقرآن». وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يمر بالآية فيقف عندها أيامًا يتدبرها.
2. تطبيقهم العملي له: كان الصحابي لا يحفظ عشر آيات حتى يعمل بها، كما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه.
3. تحاكمهم إليه: كانوا يرجعون إلى القرآن في كل صغيرة وكبيرة، ولا يقدمون عليه شيئًا.
4. استشفاؤهم به: كان الصحابة يقرؤون الفاتحة على المريض طلبًا للشفاء، كما في قصة الرجل الذي لدغته الحية، فقرأ عليه الصحابي الفاتحة فشُفي.

خامسًا: كيف نتجنب هجر القرآن؟

لتجنب الوقوع في هجر القرآن، يجب علينا:
1. الالتزام بتلاوته يوميًا ولو بقدر يسير، مع تحسين التلاوة وتحقيق الخشوع.
2. تدبره والتفكر في معانيه من خلال قراءة التفسير ومعرفة أسباب النزول.
3. العمل بما فيه، وذلك بالحرص على الامتثال للأوامر واجتناب النواهي.
4. التحاكم إليه في القضايا والأحكام، وجعله المصدر الأول في التشريع والسلوك.
5. الاستشفاء به، بأن نؤمن أنه شفاء للنفوس والأبدان، ونكثر من قراءته على المرضى.

‏سادسًا: بركات القرآن الكريم

القرآن الكريم ليس مجرد كتاب ديني يُتلى ويُحفظ، بل هو مصدر للبركة والخير في حياة الإنسان والمجتمعات. وقد جاءت النصوص الشرعية الكثيرة التي تبين بركات القرآن، ومنها:
1. البركة في الهداية والتوفيق:
قال الله تعالى: {إِنَّ هَٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء: 9). فهو نورٌ يهدي القلوب إلى الصراط المستقيم، ويخرجها من ظلمات الشك والضلال إلى نور الحق والإيمان.
2. البركة في الرزق والنجاح:
فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «بيتٌ لا يُقرأ فيه القرآن يقلُّ خيره» (رواه مسلم)، فكل من جعل القرآن في بيته وفي حياته، بورك له في رزقه وعمله وأسرته.
3. البركة في الصحة والشفاء:
قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (الإسراء: 82). فالقرآن دواءٌ لأمراض القلوب من الشبهات والشهوات، وشفاءٌ للأبدان، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه رقى الصحابة بالفاتحة، وقال: «وما يدريك أنها رقية؟» (رواه البخاري).
4. البركة في الطمأنينة والسكينة:
قال الله تعالى: {ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ} (الرعد: 28). فالقرآن مصدر للراحة النفسية، ويمنح المؤمن السكينة والثقة بالله في أحلك الظروف.
5. البركة في الآخرة ورفعة الدرجات:
قال النبي ﷺ: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» (رواه الترمذي). فالقرآن سببٌ لرفعة الدرجات في الجنة، وهو شفيعٌ لأصحابه يوم القيامة.

خاتمة

إن بركات القرآن الكريم لا تُحصى، فهو حياة للقلوب، ونورٌ للصدور، وأمانٌ للأمم، وسببٌ للفلاح في الدنيا والآخرة. وكلما زاد تعلق المسلم بالقرآن قراءةً وتدبرًا وعملاً، كلما نال من بركاته وخيراته، وأصبح من أهل الله وخاصته، كما قال النبي ﷺ: «إن لله أهلين من الناس» قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: «أهل القرآن، هم أهل الله وخاصته» (رواه ابن ماجه).
فالواجب علينا أن نتمسك بالقرآن، ونجعله محور حياتنا، ليكون لنا نورًا وبركةً وشفاعة يوم القيامة

اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك.

د. فايد محمد سعيد

عضو المجلس الأوروبي للقيادات المسلمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى