مع الزمن ومشهد الحياة وخلفيته، وكل مقتضيات القصة من شخصيات وأحداث ينكفئ الإنسان في ماديته ويتمازج إيقاع خطواته بين مضني مضني، ومضني متملق، ومتملق قاتل، والكثير من تلك الايقاعات، وفي كل هذا التسارع وذلك التزاحم يخرج رمضان كـ (زمن استثنائي)، يأخذنا بعيدًا عن تلك الضوضاء وذلك الضجيج، إلى هدأة نعهدها معه كما لا نعهدها مع غيره، ونعيشها في كنفه دون سواه، ولعل الاستثناء المحكي والخصوصية المطروقة هما جوهرهُ الذي به يُعيد تشكيل الوجود الداخلي لنا، فلم يعد مجرد شهر صيام وعبادة فقط، بل هو تجربة فلسفية تضع الإنسان أمام مرآة ذاته، لتكشف عن العمق الكامن خلف الحجاب الذي تجهد الحياة والمادة أن يبقى موجودًا.
هل تعلمنا ساعات رمضان التمرد على الضرورة؟
حاجة الإنسان إلى الأكل والشرب ضرورة، بل طبيعة، وفي تلك الساعات (أي ساعات الصيام) ينتصر الإنسان بتفكيك العلاقة بينه وبين حاجاته، أو على الأقل إعادة تحرير تلك الحاجات، وعليه تخرج صياغة جديدة للاحتياج بين الضرورة والاختيار، والنظر بعين أخرى إلى تلك الحاجات المادية.
بفضل تلك التجربة تنشأ حالة من التمرد على الغرائز، ودعوة ضمنية للتحرر من السلاسل الخفية التي تقيّد الوجود البشري في ظلمات الرغبة، وربما من خلاله يمكن الوصول إلى ثورة داخلية ضد الاستسلام لآلية الحياة، التي تحكمها العادة وما في حكمها.
هل يمكن استثمار رحلة الجوع؟
ربما نهاية الرحلة نصل للإقرار بأنه ليس عدوًا، بل معلمًا، وأن الضعف أداة قوة، والنقص تعزيز للاكتمال، ونتمالى مع الدعوة التي تنادي باكتشاف المعنى في غياب الأشياء، وليس فقط في وجودها، وهذا من أعظم الهبات لتلك الساعات.
نعم، رمضان خارج الزمن المعتاد، حيث يتباطأ الإيقاع الجنوني للحياة، وتُعاد صياغة الأولويات، ويتفكك الزمن الاستهلاكي الذي يحكم العصر الحديث. فتأتي فلسفة جديدة تقرر التأمل وتنصف الإنسان من دوامة الإنتاجية القسرية، ليدخل في نسق روحي يعيد تعريف اللحظة وتبدأ الإنتاجية الاختيارية وهي إنتاجية الداخل للداخل وللخارج والعالم أجمع.
لم يعد رمضان استثناء ينتهي بنهاية آخر أيامه بل ينبغي ولعلنا نحاول أن يصبح نقطة تحول، وهنا يكمن التحدي الحقيقي؛ إذ لا يكفي أن يكون الصيام حدثًا ينتهي وينتهي كل شيء معه، بل حالة مستدامة من الوعي، ليتمكن الإنسان من مقاومة استعباد الضرورة، ويتعلم كيف يعيش بامتلاء حتى في أوقات النقص، وكيف يكون سيد زمنه في عالمٍ يستميت كل ما فيه سلبه امتيازاته وإعادته حيث قصة الملموس ونهاية الطريق أمام المحسوس.
أخيرًا…
الإنسان ليس مجرد كائن يأكل ليعيش، بل كائن يتأمل ليكتشف ذاته.