في عام 1980م أصدر طبيب الأعصاب البريطاني أوليفر ساكس Oliver Sacks، الطبعة الأولى من كتابه الرائع “الرجل الذي حسب زوجته قبعة” “The Man Who Mistook His Wife for a Hat”، وهو عبارة عن مجموعة من القصص الشيقة والغريبة لحالات مرضى الأعصاب التي باشرها أو اطلع على سجلاتها بشكل أو بآخر والذين يصفهم في مقدمة كتابه بأنهم: “مسافرون إلى بلاد لا يمكن تخيلها”، وقد استوحى عنوان كتابه من إحدى هذه الحالات. ولحسن الحظ فقد حصلت على النسخة العربية من هذا الكتاب وأتذكر أني أنهيت قراءته مع بداية عام 2020م، وقد انطبعت في ذاكرتي بعض هذه القصص لشدة غرابتها ولعظيم ما تستحثه من مشاعر التعاطف تجاه الحالات المذكورة من جهة، ومشاعر الشكر والامتنان على نعم الله الجمة التي نتمتع بها من جهة أخرى.
ومن أبرز القصص التي وردت في هذا الكتاب وكنت دائما أستذكرها عند حديثي عن نعم الله الخفية، هي قصة رجل تعرض لإصابة بالرأس أتلفت السبل الشمية لديه مما أفقده حاسة الشم، وينقل مؤلف الكتاب نص كلام المريض في وصف شعوره:
“حاسة الشم؟ لم أكن أعرها أية أهمية أنت لا تعرها أهمية عادةً. ولكن عندما فقدتها، بدا الأمر كما لو أني كنت أعمى تماماً. فقدت الحياة قدراً كبيراً من نكهتها. لا يدرك المرء أبداً كم تشكل الرائحة من (النكهة). أنت تشم الناس، وتشم الكتب وتشم المدينة، وتشم الربيع – وقد لا تفعل ذلك بوعي، ولكنك تفعله كخلفية غنية لاشعورية لكل شيء آخر. فجأة، أصبح عالمي بأكمله أفقر جذرياً…”.
بالنسبة لي كانت كلمات هذا الرجل المصاب، مدعاة للتفكر؛ خصوصا عندما وصف حاسة الشم بأنها “خلفية غنية لا شعورية لكل شيء آخر”! كم هو وصف بليغ! إن هذا الوصف المتقن يجعلنا نتفكر في الخلفية اللا شعورية من النعم العظيمة والساحرة التي تزخر بها حياة كل فرد منا، وأننا ينبغي أن نستشعرها ونشكر الله سبحانه عليها قولا وفعلا وألا ننتظر اليوم الذي نفقدها فيه وتتحول حياتنا بعدها لحياة “… أفقر جذريا…” حتى ندرك أنها كانت نعمة عظيمة وتستحق الشكر والامتنان.
إياك أن تستهين بما هو متاح لك! فأنت بذلك تفقد الشيء قبل فقدانه، ثم لا تشعر بقيمته إلا بعد زواله. إن كنت مشغولا في عملك فتذكر أن لديك أسرة رائعة تستحق الكثير من وقتك واهتمامك، ولكل علاقة في هذه الحياة أجل محدد، ولصحتك نهاية، وهناك هدف من وجودك في هذه الحياة ينبغي ألا يشغلك عنه شاغل. وإن من المؤسف حقا أن يفني الإنسان عمره في ملاحقة ما لا يملك، تاركا وراءه جبالا من النعم المنسية والبركات المغبرّة؛ فلا يسمع دعوات والديه، وضحكات أطفاله، ولا يستشعر عون أخيه، ومودة زوجه، ولا يحمد أنس الرفقة ولا بهجة الصحبة.
وبرغم أن الرجل الذي فقد قدرته على الشم في هذه القصة من المرجح ألا يكون على قيد الحياة الآن، لكن دعني أطمئنك عليه قليلا، بشكل يحكي صورة من صور العناية واللطف الإلهي الذي يتنزل على البشر في أشكال متعددة ومختلفة؛ حيث إنه بعد بضعة أشهر من فقدانه لحاسة الشم عادت له مجددا الروائح المحببة لديه كرائحة القهوة والتبغ، مما أعاد البهجة لحياته. إلا أنه بعد مراجعة الطبيب تبين أنه لم يًشفَ، ولم تعد له حاسة الشم، وإنما استطاع دماغه أن يعيد استثارة الارتباطات العصبية واستذكار الروائح بشكل يخدع به نفسه فيشعر وكأنه استعاد قدرته على شم رائحة القهوة وأريج الربيع.
ولكن يا صديقي القارئ، تذكر أن الدماغ لن يفلح في ذلك دائما، وتذكر أن هذا الحل في كثير من الحالات والمواقف لن يكون مُرْضيا ولا كافيا.

2
كل الدعم و التوفيق لك صديقي
مبدع يادكتور وفقك ربي