المقالات

مدرسة الثلاثين يوماً: تتجاوز مفهوم الصوم.!

✍️ جمعان البشيري 

قال الرَّافعي في استقبال رمضان: “ومَنْ رَوتْهُ مُرْضِعَةُ المعاصِي فَقَدْ جَاءتْهُ أَيَّامُ الْفِطَامِ. أَلّا ما أعظمك يا شهر رمضان؛ لو عرفك العالم حقَّ معرفتك لَسمَّاك مدرسة الثلاثين يوماً.”

إن شهر رمضان ليس مجرد فترة للصوم عن الطعام والشراب، بل هو مدرسة روحية وإنسانية متكاملة، تزرع في النفوس قيماً إيجابية تتجاوز حدود الثلاثين يوماً، ليصبح العطاء والتكافل نهجاً مستداماً في حياة الأفراد والمجتمعات.

فما يقدمه هذا الشهر من دروس في الرحمة والإيثار يجب ألا يكون مؤقتاً، بل نقطة انطلاق نحو بناء عالم أكثر إنصافاً وتعاطفاً.

ما أن يبدأ رمضان إلّا ويوقظ في القلوب شعوراً عميقاً بالمسؤولية تجاه الآخرين، حيث تتجلى أسمى صور التكافل الاجتماعي. تزداد خلاله مبادرات إطعام الفقراء، ودعم الأسر المحتاجة، وتقديم المساعدات العينية والمالية، فيتجسد المعنى الحقيقي للأخوة الإنسانية. هذا العطاء، وإن كان متجذراً في تعاليم الدين، إلا أنه يرتقي ليصبح واجباً أخلاقياً يعزز من تماسك المجتمع، ويجعل من الرحمة سلوكاً مستداماً لا يقتصر على الشهر الفضيل وحده.

في كل سنة يشهد رمضان تعزيزاً  للمبادرات الخيرية و حراكاً خيرياً واسعاً، حيث تتكاتف المؤسسات والأفراد لإطلاق حملات دعم المحتاجين. وتمتد هذه الجهود إلى برامج تنموية، مثل بناء المساكن، وتوفير فرص العمل، والتعليم المجاني، مما يعكس وعياً متزايداً بأهمية تقديم حلول مستدامة بدلاً من المساعدات الآنية فقط، ومع تنامي استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح من السهل نشر ثقافة العمل الخيري، وتشجيع المشاركة المجتمعية الواسعة، ليصبح العطاء جزءاً أصيلاً من وعي الناس وسلوكهم.

إن ما يقدمه رمضان من فرص للعطاء لا ينبغي أن يكون مرتبطاً بزمنه، بل يجب أن يمتد أثره الدائم للخدمات والأعمال الخيرية؛ليصبح عادة مستمرة، فالأعمال الخيرية التي تزدهر خلاله يمكن تحويلها إلى مشاريع دائمة، مثل الصناديق الوقفية، وبرامج دعم الأسر المنتجة، والمبادرات التعليمية والصحية، ما يسهم في تعزيز الاستقرار الاجتماعي. وحين يتحول العطاء إلى التزام دائم، تتغير حياة الكثيرين للأفضل، ويصبح الخير نهجاً راسخاً لا موسماً عابراً.

لا يقتصر الصيام على الامتناع عن الطعام والشراب، فهو مدرسة تترجم المفاهيم الروحية العميقة إلى خدمات مجتمعية ملموسة، بل هو تجربة تُعلّم الإنسان الصبر والتواضع والتفكير في معاناة الآخرين. ومن هنا، يتحول الشعور بالاحتياج إلى دافع حقيقي لدعم المجتمعات الأقل حظاً، سواء من خلال تقديم المساعدات، أو العمل على تحقيق العدالة الاجتماعية، أو تبني مشاريع تنموية تنهض بالفئات الضعيفة. وحين تصبح هذه القيم محور حياة الأفراد، يترجم الصيام إلى نهضة إنسانية واجتماعية تتجاوز حدود رمضان.

إن أعظم ما يمنحه رمضان للإنسان ليس فقط وقتاً للتأمل، فرمضان: بناء عالمٍ أكثر تعاطفًا وإنصافًا وشمولية؛ بل أيضاً فرصة لإعادة صياغة علاقة الإنسان بالمجتمع من منظور أكثر رحمة وعدالة؛ فهو يذكرنا بأن العالم بحاجة إلى مزيد من التكاتف، وأن مسؤوليتنا لا تقتصر على أنفسنا، بل تمتد إلى من حولنا،فإذا استمر العطاء والتراحم بعد انتهاء الشهر، فإننا نكون قد فهمنا رمضان على حقيقته، وجعلناه مدرسةً تمتد دروسها طوال العام.

وهكذا، يظل رمضان أعظم معلمٍ في مدرسة الحياة، يعلمنا أن الخير ليس فعلاً موسمياً، بل أسلوب حياة يغيّر العالم، تماماً كما وصفه الرافعي: “مدرسة الثلاثين يوماً.”

جمعان البشيري

محرر صحفي - جدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى