«زاوية منفرجة»
توقفت ذات عام “عابرا/ ترانزيت” في مطار المنامة، لأستقل طائرة أخرى الى وُجْهة أوربية، وقبل الموعد المحدد للسفر بيوم، انفجر دمل كان في أسفل بطني، وأطلق حمما بركانية، ولجأت الى طبيب جراح، شرحت له أنني مسافر جوا لمسافة طويلة بعد ساعات، فقام بتنظيف موقع الدمل، ووضع عليه ضمادات، غير لاصقة، ونصحني بالسفر على الدرجة الأولى، كي يتسنى لي التمدد قليلا على مقعد الطائرة، لتفادي الضغط على الجرح المفتوح. وقد كان.
في مطار المنامة توجهت الى صالة ركاب الدرجة الأولى، لأنتظر الإعلان عن موعد الجزء الأخير من الرحلة، ووجدت كنبة وثيرة، وتمددت عليها بعد تخفيف ضغط حزام البنطلون على موقع الدمل، ثم انتبهت الى نظرات الاستياء والاشمئزاز في عيون بعض من كانوا في الصالة، ولسان حالهم يقول “وش اللي جاب هذا المُبَهْدل في صالة الدرجة الأولى؟”، ولم تضايقني تلك النظرات المشمئزة، لأنني كنت مدركا أن شكلي العام ببنطلوني المرتخي حول خاصرتي، وتمددي على الكنبة، يشيان بأنني مُبَهْدل ودخيل على تلك الصالة، بينما كان بقية الضيوف فيها في كامل أناقتهم، وبعضهم تكرَّش حتى عاد بلا رقبة، وربطات العنق عندهم تمتد أفقيا
كان هناك موظف آسيوي أنيق يروح جيئة وذهابا داخل الصالة مستجيبا لرغبات ضيوفها، فاستوقفته وطلبت منه كوب ماء، شارحا له أن حركتي “محدودة”، فبارحني ولم يعد، فاقتنعت تماما بأنني دخيل على تلك الصالة، وبينما أنا أنقب عن تذكرة سفري لأتأكد من أنني مؤهل للسفر على الدرجة الأولى، ومؤهل للجلوس في صالة الركاب تلك، سمعت من يقول: هلا أبو الجعافر، ورفعت رأسي فإذا به مطرب العرب الكبير محمد عبده. فنهضت وعانقته ولسان حالي يقول: ينصر دينك، جئت في الوقت المناسب لتلقم عيون هؤلاء فلفلا حرّاقا. واندفع بعض من كانوا ينظرون الى شذرا الى محمد عبده مُحَيين إياه، ومصافحين إياي بحماس شديد، ثم جاء ذلك الموظف الآسيوي الذي تجاهلني في بادئ الأمر، حاملا إليّ الماء في كوب زجاجي أنيق. وهكذا تحولت من نكرة غير مرغوب فيه، الى “معرفة” بالإضافة الى محمد عبده
هناك مثل شعبي واسع التداول، رغم أنه في منتهى الركاكة: “اللي ما يعرفك يجهلك”. هو لا يعرفني فما الغريب في أنه يجهلني؟ أعني أن عدم المعرفة جهل. ومع هذا استدعيت ذلك المثل، وأنا في تلك الصالة، حيث اعتبرني بعض نزلائها “دُمّلاً” في جسمها، وعذرتهم لأنهم لا يعرفون أنني “ولد عِز”. لم يكونوا يعرفون أنني ارستقراطي بالميلاد، فقد كنت- مثلا- التلميذ الوحيد الذي يذهب الى المدرسة الابتدائية على ظهر حمار، وكان خالي قد أهداني ذلك الحمار وانا في الصف الثالث الابتدائي، فجعلني ذلك محط حسد أقراني، ومحط إعجاب تلميذات مدرسة البنات الابتدائية، وصحيح انه كان حمارا بمعنى الكلمة، تطلب منه ان يتجه شرقا فيتجه جنوبا، وكثيرا ما مارس القفز الأولمبي وانا على ظهره، وانتهى بي الأمر مطروحا على الأرض، ولكن المسامح كريم، ويكفي أنه رفع سهمي الاجتماعي في بلدة كانت فيها بعض الحمير، تحظى بنفس المكانة التي تحظى بها سيارات بورش وفيراري في أيامنا هذه
وللحمير في عائلتنا مكانة خاصة، فقد كان جدي لأبي مغرما بالحمير، وكان كلما رأى حمارا “جميلا” قايضه بجزء من أراض كان يملكها، وعند وفاته، لم يبق من تلك الأراضي سوى رقعة مالحة، لا ينبت فيها حتى الصبار على ما فيه من جَلَد، ولكنه ترك للورثة 12 حمارا، فما كان من عمي “الطيب”- وهذا هو اسمه كما هو صفته- رحمه الله، وكان كبير إخوته، إلا أن وزعها على بعض أهل البلدة “صدقة” على روح والده، وهناك من قال إنه فعل ذلك غاضبا على حمير تسببت في ضياع أراضٍ خصبة
في مرحلة الشباب توالت انجازاتي، فشربت الكولا وتعاطيت الآيس كريم عمدا وأنا دون الخامسة عشر، ثم وأنا طالب في الجامعة امتلكت دراجة، وكان أقراني يتهافتون لركوبها، فصرت أعيرها لهم نظير أجرة معلومة، وكان ذلك لأنني صرت ثريا، بعد أن عملت في الإجازة المدرسية كاتبا في مختبر طبي مسؤولا عن استلام العينات (وما أدراك ما تلك العينات)، وتسليم نتائج الفحص للمرضى، ثم جاءت القفزة الحضارية الكبرى بعد تخرجي في الجامعة بشهور قليلة، عندما اشتريت سيارة ب40 جنيها (كانت تساوي نحو 120 دولارا في ذلك الزمان). صحيح انها كانت مجهولة الأبوين، لا أحد يعرف نوعها وموديلها وماركتها، ولكنها كانت تسير كما ينبغي ان تفعل كل سيارة، وكانت تسير بالدفع الرباعي، فلم يكن محركها يدور ما لم يدفعها أربعة أشخاص، وكانت “تقدمية”، وليس فيها ترس يعين سائقها على السير بها الى الخلف، وكانت تعاني من التهاب القولون، وتصدر عنها غازات، أحسب أنها نسفت حصة السودان من طبقة الأوزون. ولظروف خاصة عرضتها للبيع ب30 جنيها، ثم 20 ثم 10، ولم أجد من يشتريها، فاستدرجتها الى أسفل جسر على النيل في موسم انحسار الماء، ومرت عدة أشهر وهي قابعة هناك لا تغري حتى تجار الحديد بتشليحها، ثم جاء فيضان عَرم، وجرفها فيما جرف، فذهبت غير مأسوف على شيخوختها
ولن أواصل سرد وقائع تثبت أنني سليل بيت عز وجاه، كي أبعد عن نفسي شبهة التباهي، ومن تواضع لله رفعه