مقدمة
مثلت الحضارة الإسلامية نموذجًا متقدمًا في مختلف العلوم والفنون، وكان الطب أحد المجالات التي شهدت ازدهارًا ملحوظًا بفضل التراكم المعرفي والترجمة والتطوير المستمر. ومن أبرز معالم هذا التقدم إنشاء البيمارستانات (المستشفيات)، التي لم تكن مجرد أماكن للعلاج، بل كانت مراكز علمية متخصصة في البحث والتدريب الطبي. ومن بين هذه المؤسسات الطبية الرائدة، برز البيمارستان الموحدي في مراكش، الذي وصفه عبد الواحد المراكشي بأنه “ليس في الدنيا مثله”.
يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على هذا المستشفى المتقدم، وبيئته العلمية، ودوره في تطوير الطب، مع التعريف بالكاتب عبد الواحد المراكشي، وتحليل آراء المستشرقين حول كتابه، واستعراض اهتمام مراكز البحوث والدراسات المعاصرة بهذا الصرح العلمي الفريد.
عبد الواحد المراكشي وكتابه “المعجب في تلخيص أخبار المغرب”
عبد الواحد المراكشي (1185 – 1229 م) هو مؤرخ مغربي وُلد في مراكش وعاش في أواخر العهد الموحدي. يُعد كتابه المعجب في تلخيص أخبار المغرب من أهم المصادر التاريخية عن الدولة الموحدية، حيث تناول فيه تاريخ الأندلس والمغرب الإسلامي، وسلط الضوء على إنجازات الحكام والعلماء والمعالم الحضارية، ومنها البيمارستان الموحدي في مراكش.
يُعرف هذا الكتاب بأسلوبه السلس والمعلومات الدقيقة التي يقدمها، ما جعله مرجعًا رئيسيًا للمؤرخين الذين يدرسون العصر الموحدي. وقد تميّز عبد الواحد المراكشي بقدرته على الوصف التفصيلي للمؤسسات الحضارية، مما جعل وصفه للبيمارستان ذا قيمة علمية عالية.
البيمارستان الموحدي في مراكش: صرح طبي متكامل
أنشأ الخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن (حكم 1163-1184 م) هذا البيمارستان في مراكش ليكون مركزًا طبيًا متطورًا يجمع بين العلاج والتعليم الطبي، وفق أحدث ما توصل إليه العلماء في ذلك العصر.
وصف دقيق للبيمارستان
1. التخطيط المعماري:
• بني البيمارستان على مساحة واسعة، وسط حدائق وبساتين توفر بيئة هادئة للمرضى.
• قُسم إلى عدة أجنحة وفقًا لتخصصات الطب المختلفة، مثل الأمراض الباطنية، والجراحة، وطب العيون، والأمراض النفسية.
• زُوّد بأفنية واسعة ونوافير مياه لضمان التهوية والنظافة.
2. الخدمات الطبية:
• اعتمد المستشفى على أطباء متخصصين في مختلف المجالات، ومنهم جراحون وصيادلة وأخصائيون في طب العيون.
• كان يعمل وفق نظام دقيق للعلاج والرعاية الصحية، حيث كان المرضى يتلقون العلاج مجانًا، بغض النظر عن طبقتهم الاجتماعية.
• تميز باستخدام أحدث التقنيات الطبية في ذلك الوقت، بما في ذلك تحضير الأدوية والعقاقير داخل المستشفى.
3. التعليم الطبي والتدريب:
• لم يكن المستشفى مجرد مكان للعلاج، بل كان مؤسسة تعليمية يتم فيها تدريب الطلاب على أيدي كبار الأطباء.
• استند إلى نظام سريري متقدم، حيث كان الطلاب يرافقون الأطباء أثناء التشخيص والعلاج لاكتساب الخبرة العملية.
• كانت هناك مكتبة طبية تحتوي على أمهات الكتب الطبية، مثل مؤلفات ابن سينا، والزهراوي، والرازي.
4. الرعاية المتكاملة:
• اهتم البيمارستان بالصحة النفسية إلى جانب الصحة البدنية، حيث خُصصت أقسام لعلاج الأمراض النفسية والعصبية بأساليب متطورة تشمل الموسيقى والعلاج بالعطور.
• كان المرضى يتلقون وجبات غذائية خاصة تتناسب مع حالتهم الصحية، وكان هناك مشرفون مسؤولون عن مراقبة حالتهم العامة.
رأي المستشرقين حول البيمارستان والكتاب
أثار المعجب في تلخيص أخبار المغرب اهتمام العديد من المستشرقين، الذين اعتبروه مرجعًا مهمًا لدراسة الحضارة الإسلامية في المغرب والأندلس.
• جورج سارتون، في كتابه مقدمة في تاريخ العلم، أشار إلى أن البيمارستانات الإسلامية كانت نموذجًا متطورًا سبق مستشفيات أوروبا بقرون.
• غوستاف لوبون في حضارة العرب أشاد بالنظام الطبي الإسلامي، واعتبر أن البيمارستانات كانت مؤسسات رعاية صحية متكاملة تفوقت على نظيراتها الأوروبية.
• إدوارد براون، في كتابه تاريخ الطب عند العرب، تحدث عن الدور المحوري للبيمارستانات الإسلامية في نشر المعرفة الطبية إلى أوروبا عبر الأندلس.
مراكز البحوث والدراسات والاهتمام الغربي بالمستشفى
بدأت الجامعات ومراكز البحوث في العصر الحديث إعادة تقييم دور المستشفيات الإسلامية في تطور الطب.
• جامعة أكسفورد وهارفارد أجرتا دراسات عن تأثير المستشفيات الإسلامية على النهضة الطبية الأوروبية.
• المتحف البريطاني ومتحف العلوم في لندن خصصا معارض لتاريخ الطب الإسلامي، مع إبراز دور البيمارستانات.
• معهد ماكس بلانك لتاريخ العلوم في ألمانيا تناول في أبحاثه التنظيم الإداري والوظيفي للبيمارستانات الإسلامية، مع مقارنة بمستشفيات العصور الوسطى في أوروبا.
الخاتمة
يُعد البيمارستان الموحدي في مراكش نموذجًا حضاريًا متكاملًا يجسد تقدم الطب الإسلامي وارتباطه بالبحث العلمي والرعاية الإنسانية. لم يكن مجرد مستشفى، بل كان مؤسسة أكاديمية تُدرب الأطباء وتطور الأدوية وتقدم علاجًا مجانيًا للجميع، ما يعكس مستوى التقدم الذي وصلت إليه الحضارة الإسلامية في مجال الطب والرعاية الصحية.
واليوم، مع تزايد الاهتمام الأكاديمي بدراسة التاريخ العلمي الإسلامي، يبقى البيمارستان الموحدي شاهدًا على إبداع المسلمين في بناء منظومة طبية متكاملة كان لها أثر عميق على تطور المستشفيات الحديثة في العالم