مع إيماني الكبير بالقدر خيره وشره، وأن كل نفس ذائقة الموت ولها أجلها المحدد منذ أن خلقها الله جل جلاله، إلا أن الموت يظل فاجعة، لا سيما موت الأقرباء والأصدقاء. وكما وصف في الحديث الشريف بأنه هادم اللذات ومفرق الجماعات، فقد مُنِيتُ الأسبوع الماضي بفاجعة من فواجعه، وهي وفاة أخي وحبيبي وشقيق الروح حامد، الذي عشتُ معه قرابة السبعين عامًا. لم يُرزَق والدانا – رحمهما الله وغفر لهما – في بداية حياتهما إلا بنا، وهكذا نشأنا في القرية معًا.
لم يشاركنا في ألعابنا ولهونا الطفولي طفلٌ آخر، ولا حتى في فتوتنا، لأن طبيعة قريتنا كانت تفرض تباعد البيوت عن بعضها بعشرات الكيلومترات، فلم تكن هناك مدارس تجمعنا مع أطفال الحي، فظل اللعب واللهو مقتصرًا علينا حتى كبرنا. وعندما بلغنا الرابعة عشرة من أعمارنا، انتقلنا إلى مكة المكرمة للدراسة والعمل، وغادرنا القرية بعد وفاة والدتنا – غفر الله لها وأسكنها الجنة. وعلى مدى أكثر من ستين عامًا عشناها معًا، لم نفترق إلا عند النوم. ولسان حالي بعد رحيل شقيقي حامد يتمثل في قول الشاعر العربي:
فإن تكن الأيام فرقن بيننا
فقد بان محمودًا أخي حين ودّعا
وكنّا كندماني جذيمةَ حقبةً
من الدهر حتى قيل: لن يتصدّعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا
لطول اجتماعٍ لم نبت ليلةً معا
وفي مكة المكرمة، عمّرنا منزلًا مشتركًا باسمنا، وسكنا فيه وتزوجنا، حتى أصبح يُعرف في الحارة باسم منزل حامد وأحمد، وبقينا فيه أكثر من ستين عامًا. وعندما كبر الأبناء، أردنا التوسع فانتقل كل واحد منا إلى منزل آخر في أطراف المدينة. كان ذلك فراقًا صعبًا علينا، لكنني كنت حريصًا على زيارة أخي في منزله كل ليلة سبت، حيث كنت أسعد وأرتاح بمؤانسته والحديث معه لساعات طويلة.
ومن مناقب ومآثر أخي حامد (أبو وسيم) أنه كان مداومًا على قراءة كتاب الله الكريم، وحافظًا لبعض سوره مثل البقرة والملك. وكان يسافر إلى جدة أسبوعيًا بحكم عمله، وطوال الطريق كان يتلو القرآن الكريم، لدرجة أن من يسير بجواره قد يظن أنه يغني أو يتحدث مع نفسه، لكنه في الحقيقة كان يتلو آيات الله. وقد وهبه الله ذاكرة قوية لحفظ القرآن والأحاديث النبوية الشريفة، كما كان حريصًا على الأذكار والتسبيح، ولسانه دائمًا رطب بذكر الله. وكان يواظب على أداء الصلوات جماعةً في المسجد، ويمكث فيه من صلاة المغرب إلى ما بعد صلاة العشاء، وكان يقول: “أجمل أوقاتي تلك التي أقضيها في المسجد.”
ومما يبعث على الفرح والطمأنينة أن الله ختم له بحسن الخاتمة، فقد توفي في شهر رمضان المبارك، شهر القرآن، الشهر الذي تُفتح فيه أبواب الجنة. وعلى الرغم من مرضه الطويل وجلوسه طريح الفراش لأكثر من ثمانية أشهر، إلا أن هذه بشائر خيرٍ بإذن الله.
رحمك الله يا أبا وسيم، وأعاننا على فراقك، وجمعنا بك ووالدينا في جنات النعيم. لا شك أن فقدان العضيد مؤلم في الحياة، لكننا مؤمنون بقضاء الله وقدره، وبالقدر خيره وشره. إنا لله وإنا إليه راجعون.