المقالات

سافروا تصحوا!

لا شك أن الرحلة في طلب العلم من الأمور العظيمة التي تُعدّ من أسباب تحصيله، فقديماً كان أحدهم يرحل من المدينة إلى الشام أو إلى مصر أو إلى غيرها من البلدان ليجلس بين يدي أحد العلماء، فيأخذ عنه حديثاً لا يجده عند غيره.

والرحلة في طلب العلم قديمة قِدم التاريخ، وقد وردت نماذج لها في القرآن والسنة، ومن ذلك رحلة موسى -عليه السلام- في طلب العلم على يد الخضر، كما ورد في صحيح البخاري في كتاب العلم، في باب “ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر”، حيث يقول الله تعالى: (هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً) [الكهف: 66].

كما نجد الإمام الشافعي يشيد بالسفر وفوائده في أبياته الشهيرة:

تَغَرَّبْ عن الأوطان في طلب العُلا
وسافرْ ففي الأسفار خمسُ فوائدِ
تَفَرُّجُ همٍّ، واكتسابُ معيشةٍ
وعلمٌ، وآدابٌ، وصُحبةُ ماجدِ

فالسفر إذن متعة، وصحة، وثقافة، وانفتاح. وقد قال النبي ﷺ: “سافروا تصحوا”.

حين كنتُ أتابع دراستي في جامعة ويلز ببريطانيا، سألتني مشرفتي في الدكتوراه، الدكتورة “سيلفيا لوتكنز”، ذات يوم: لماذا جئت إلينا؟

عندها تذكرت مقولة العلّامة الموسوعي ومؤسس علم الاجتماع، التونسي أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون، في مقدمته الشهيرة: “إن الرحلة في طلب العلم هي مَزيدُ كمال في التعلُّم”.

فالذي يرحل في طلب العلم والمعرفة يجب أن يدرك تماماً ما يعنيه الارتحال للتعلم، من حيث المثاقفة الفكرية، والعلمية، والاجتماعية، والعقلية، التي لا يمكن تحقيقها دون هذه التجربة.

لا أبالغ إذا قلت إنني زرتُ أكثر من خمسين مدينة وقرية وبلدة في بريطانيا وبعض دول أوروبا أثناء دراستي لنيل درجة الدكتوراه في الإحصاء التطبيقي، والتي امتدت لأربع سنوات. التقيت بعلماء كبار من الحاصلين على جائزة نوبل، وقابلت أساتذة عظماء في تخصصات مختلفة، وتلقيت منهم علماً وافراً عن إصداراتهم، وتجاربهم، وأبحاثهم. حضرت العديد من المؤتمرات العلمية، والندوات، وورش العمل، والمحاضرات العامة، داخل بريطانيا وخارجها.

كما زرت دار الأوبرا والمسارح والمتاحف عدة مرات، وذهبت إلى دور السينما، وارتدت المكتبات العامة، مثل المكتبة الوطنية البريطانية في لندن، والمكتبات الخاصة في مدن أوروبية مختلفة.

عقدت صداقات كثيرة مع أناس من مختلف البلدان، والأعراق، والثقافات، وتعلمت الكثير من التجارب الحياتية. مررت بمواقف عديدة واكتسبت خبرات متراكمة، تجاوزتها بفضل الله أولاً، ثم بدعاء والدتي الحبيبة، أطال الله في عمرها، وأدام عليها الصحة والعافية.

أ. د. بكري معتوق عساس

مدير جامعة أم القرى سابقًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى