المقالات

مكة.. أبرز الوقائع في التاريخ الإسلامي

بقدر كون شهر رمضان الفضيل هو شهر الصوم والطاعة والعبادة، بقدر ما هو شهر الطاقة الإيمانية الكبرى التي تشحذ همم المسلمين، فسطروا أعظم الملاحم في تاريخهم عبر التاريخ.
ودليل ذلك، أن الشهر الفضيل هو شهر الإنتصارات والمعارك الكبرى في تاريخ الإسلام والمسلمين، والقائمة طويلة، ومنها: غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية للهجرة، وفتح بلاد النوبة سنة 31 هجرية على يد عبد الله بن سعد بن أبي السرح لنشر الإسلام في تلك البقاع وتأمين حدود مصر الجنوبية، وفتح بلاد الأندلس في سنة 92 هجرية، وفتح عمورية سنة 223 هجرية بعد أن صرخت إمرأة مسلمة “وامعتصماه”، إضافًة إلى معركة حطين التي كسرت الصليبيين على يد صلاح الدين الأيوبي في سنة 583 هجرية، ومعركة عين جالوت سنة 858 هجرية بقيادة سيف الدين قطز والتي كسرت شوكة التتار، وصولاً إلى نصر العاشر من رمضان 1393هـ (6 أكتوبر 1973م) وانتصار الجيش المصري على إسرائيل.
ولكن يظل فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة واحداً من أعظم الوقائع الفاصلة في تاريخ الإسلام، والتي أعز الله فيها دينه وأذل أعداءه، فبهذا الفتح خسر الكفر أهم وأخر معاقله في بلاد العرب، وبعده دخل الناس في دين الله أفواجاً، وباتت مكة المكرمة الحصن الحصين لدين التوحيد والهداية.
ويحدثنا التاريخ عن سبب الفتح العظيم، بأنه كان من بنود “صلح الحديبية” (سنة 6 هجرية) بين الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم- وقريش أن من أراد الدخول في حلف الرسول وعهده دخل فيه، ومن أراد الدخول في حلف قريش وعهدهم دخل فيه، فدخلت قبيلة “خزاعة” في عهد الرسول الأمين، فيما دخلت “بنو بكر” في عهد قريش.
ولأن العداوة والحروب المستمرة كانت مشتعلة بين هاتين القبيلتين، فأراد “بنو بكر” أن ينالوا من “خزاعة” ثأراً قديماً لهم، فأغاروا عليهم ليلاً وقتلوا منهم جماعة، وأعانت قريش في الخفاء “بني بكر” بالسلاح والرجال، وخرقت بذلك بنود الصلح مع الرسول الكريم، فأرسلت “خزاعة” إليه تخبره بالأمر وأن قريشاً غدرت بحلفائه. وهنا، أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم- المسلمين بالاستعداد للخروج إلى مكة نصرةً لحلفائهم من “خزاعة”، وأوصى بكتم الأمر عن قريش حتى يباغتها جيش المسلمين.
ومن جانبها، استشعرت قريش خطورة فعلتها، فسافر زعيمها أبو سفيان بن حرب إلى المدينة المنورة لعلاج المشكلة وتجديد الصلح مع الرسول الكريم، ولكنه وجد أنه لا فائدة من تحركه لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم- عزم على فتح مكة وأمر بالتجهز له.
وفي اليوم العاشر من رمضان، خرج الرسول الكريم من المدينة على رأس جيش قوامه عشرة آلاف جندي من أصحابه، وطلب من القبائل المسلمة حول المدينة (أسلم- مزينة- جهينة- غفار- سليم) الخروج معه، فلحق به منهم ألفا رجل، فصار مجموع جيش المسلمين إثني عشر ألف جندي.
وسار الرسول وجيشه صائمون، فلما وصل إلى “الجحفة” لقيه عمه العباس بن عبد المطلب – رضي الله عنه- وكان قد خرج بأهله وعياله مهاجراً إلى المدينة، فاصطحبه في طريقه إلى مكة، بينما واصل أهله الرحلة إلى المدينة.
ولما وصل الجيش إلى وادي “مَرّ الظهران” القريب من مكة، ركب العباس بغلة الرسول – صلى الله عليه وسلم- البيضاء، وانطلق يبحث عن أحد يخبره بمقدم جيش المسلمين لفتح مكة، ليبلغ قريشاً بذلك يحثهم على طلب الأمان من الرسول قبل أن يدخلها عليهم محارباً بقوة السلاح.
وآنئذٍ، كان أبو سفيان خارج مكة يتجسس الأخبار، فلقيه العباس ونصحه بأن يأتي معه ليطلب له الأمان من الرسول الكريم فجاء معه، ولما دخلا عليه قال الرسول مخاطباً أبا سفيان: “ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟… ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟”، فأعلن أبو سفيان إسلامه، فقال العباس:‏ “يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً”، فقال الرسول‏:‏ “‏نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن”.
بعدها، غادر جيش المسلمين “مرّ الظهران” متوجهاً إلى مكة، فمرت على أبي سفيان كتائب الجيش متتابعة؛ وهو ما أثار الرعب في نفسه، فاقتنع بأن خسارة قريش ستكون محققة إن هي حاولت منع المسلمين من دخول مكة، فأسرع إلى قومه صارخاً: “يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن”، فتفرق الناس واحتموا بدورهم وبالمسجد الحرام.
وحين وصل الرسول الكريم إلى “ذي طوى”، وزع جيشه إلى 3 أقسام: الإول.. أمّر عليه خالد بن الوليد وأمره أن يدخل مكة من أسفلها، والثاني.. أمّر عليه الزبير بن العوام – ومعه راية النبي محمد- وأمره أن يدخل مكة من أعلاها، والثالث.. أمّر عليه أبا عبيدة بن الجراح وأمره أن يسلك بطن الوادي، ووجّه الرسول الكريم أمراءَ الجيش الثلاثة بأن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم.
ولما دخل الجيش مكة لم يواجه جيشاً محارباً من أهلها، باستثناء اشتباك محدود وقع بين جيش خالد بن الوليد ومجموعة قليلة من قريش بقيادة عكرمة بن أبي جهل رفضت الأمان وأرادت التصدي للمسلمين بالقوة، ثم انتهى الأمر بفرار فلول عكرمة إلى بيوتهم ليأمنوا من القتل.
ودخل الرسول الكريم وجيشه مكة من أعلاها حتى دخل المسجد الحرام، فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم طاف بالبيت، وكانت في يده قوس يطعن بها الأصنام المنصوبة حول الكعبة (360 صنماً) وهو يردد قوله تعالى: “وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا” (الإسراء، الآية: 81)، “قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد” (سـبأ، الآية: 49)، فتخر الأصنام ساقطة على وجوهها. وبعد أن أكمل الرسول الكريم طوافه، دعا سادن الكعبة عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاحها وأمر بها ففتحت، فدخلها وأمر بالصور التي كانت فيها فمحيت، ثم دار في نواحيها وصلى داخلها، ثم خرج منها وأعاد مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة وأمر أن يبقى في عائلته أبد الدهر.
وقد تجمع أهل قريش منتظرين ما سيفعله بهم الرسول الكريم، فتوجه إليهم وقال: “يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟”، فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: “فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوانه: “لا تثريب عليكم اليوم” (يوسف، الآية: 92)، اذهبوا فأنتم الطلقاء”، وأمر بلال أن يصعد فيؤذن للصلاة على ظهر الكعبة وقريش تسمع.
وفي اليوم التالي لفتح مكة، ألقى الرسول – صلى الله عليه وسلم- خطبة عظيمة بيّن فيها بعض معالم الدين وحرمة بلده الأمين مكة، ثم بايع الرجال والنساء من أهل مكة على السمع والطاعة، وأقام بها بعد ذلك 19 يوماً، وضح لهم فيها معالم الإسلام وتعاليمه ورتب فيها شؤون إدارة مكة المكرمة.

• مدير البريد السعودي (سبل) بالعاصمة المقدسة

وليد خالد علوي

مدير البريد السعودي (سبل) بالعاصمة المقدسة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى