المقالات

قراءة تحليلية لتائية الثائر الشنفرى

**= أولاً : القصيدة وتفسير كلماتها :
أَلاَ أُمُّ عَمْروٍ أَجْمَعَتْ فاسْتقَلَّتِ = == وما وَدَّعَتْ جِيرانَها إِذْ تَوَلَّتِ
وقد سَبَقَتْنَا أُمُّ عَمْروٍ بأَمرِها = == وكانت بأَعْناقِ المَطِيِّ أَظَلَّتِ
بِعَيْنَيَّ ما أَمْستْ فبَاتتْ فأَصبحت = == فقَضَّتْ أُمُوراً فاستقَلَّتْ فَوَلَّتِ
فَوَاكَبِدَا على أُميْمَةَ بَعْدَ ما = = = طَمِعْتُ، فهَبْها نِعْمةَ العَيْشِ زَلَّتِ
فيَا جارَتِي وأَنتِ غيرُ مُلِيمَة = = = إِذَا ذُكِرَتُ، ولاَ بِذَاتِ تَقَلَّتِ
لقد أَعْجَبَتْنِي لا سَقُوطاً قِناعُها = = = إِذا ما مَشَتْ، ولا بِذَات تَلَفُّتِ
تَبِيتُ بُعيدَ النَّوْمِ تُهْدِي غَبُوقَها = = = لِجارَتِها إِذَا الهَدِيّةُ قَلَّتِ
تَحُلُّ بِمِنْجَاةٍ مِن اللَّوْمِ بَيْتَها = = = إِذا ما بُيُوتٌ بالمَذَمَّةِ حُلَّتِ
كأَنَّ لهَا في الأَرضِ نِسْياً تَقُصُّهُ = = = على أَمِّها، وإِنْ تُكَلِّمْكَ تَبْلَتِ
أُميْمةُ لا يُخْزِي نَثَاهَا حَلِيلَها = = = إِذا ذُكِرَ النِّسْوَانُ عَفَّتْ وجَلَّتِ
إِذا هُوَ أَمْسَى آبَ قُرَّةَ عَيْنِهِ = = = مآبَ السَّعيدِ لم يَسَلْ أَيْنَ ظَلَّتِ
فَدَقَّتْ وجَلَّتْ واسْبَكَرَّتْ وأُكْمِلَتْ = = = فَلْوْجُنَّ إِنسانٌ من الحُسْنِ جُنَّتِ
فَبِتْنا كأَنَّ البَيْتَ حُجِّرَ فَوْقَنَا = = = برَيْحانِةٌ رِيحَتْ عِشاءً وطُلَّتِ
بِريْحانَةٍ مِن بَطْنِ حَلْيَةَ نَوَّرَتْ = = = لهَا أَرَجٌ، ما حَوْلهَا غيرُ مُسْنِتِ
وبَاضِعَةٍ حُمْرِ القِسِيِّ بَعَثْتُها = = = ومَنْ يَغْزُ يَغْنَمْ مَرَّةً ويُشَمَّتِ
خَرجْنا مِن الوَادِي الَّذِي بيْنَ مِشْعَلٍ = = = وبَيْنَ الجَبَا هَيْهاتَ أَنشَأْتُ سُرْبَتِي
أُمَشِّي على الأَرضِ التي لن تَضُرَّنِي = = = لأِنْكِيَ قوماً أَو أَصادِفَ حُمَّتِي
أُمَشِّي على أَيْنِ الغَزَاةِ وبُعْدها = = = يُقَرِّبُنِي مِنها رَوَاحِي وغُدْوَتي
وأُمُّ عِيَالٍ قد شَهِدتُ تَقُوتُهُمْ = = = إِذا أَطَعَمْتُهْمْ أَوتَحَتْ وأَقَلَّتِ
تَخافُ علينا العَيْلَ إِنْ هي أَكثرتْ = = = ونحْنُ جِيَاعٌ، أَيَّ آلٍ تَأَلَّتِ
وما إِنَّ بها ضِنٌّ بما في وِعَائِها = = = ولكنَّها مِن خِيفِةِ الجُوعِ أَبْقَتِ
مُصَعْلِكَةٍ لا يَقْصُرُ السِّتْرُ دُونَها = = = ولاَ تُرْتَجَى للبَيْتِ إِن لم تُبَيِّتِ
لها وفْضةٌ فيها ثلاثونَ سَيْحَفاً = = = إِذا آنَسَتْ أُولَى العَدِيّ أقْشَعَرَّتِ
وتأْتِي العَدِيَّ بارِزاً نِصْفُ سَاقِها = = = تَجُولُ كَعَيْرِ العَانَةِ المُتَلَفِّتِ
إِذَا فَزِعُوا طارتْ بأَبيضَ صارِمٍ = = = ورامَتْ بِما فِي جَفْرِها ثُمَّ سَلَّتِ
حُسامٍ كلَوْنِ المِلْح صافٍ حَديدُهُ = = = جُزَارٍ كأَقطاعِ الغَدِيرِ المُنَعَّتِ
تَرَاها كأَذْنابِ الحَسِيلِ صَوَادِراً = = = وقد نَهِلَتْ مِنَ الدِّمَاءِ وعَلَّتِ
قَتَلْنَا قَتِيلاً مُهْدِياً بِمُلَبِّدٍ = = = جِمَارَ مِنىً وَسْطَ الحَجِيجِ المُصَوِّتِ
جَزَيْنا سَلاَمَانَ بنَ مُفْرِجَ قَرْضَها = = = بما قَدَّمتْ أَيديهِمُ وأَزلَّتِ
وهُنِّيءَ بِي قومٌ وما إِنْ هَنأْتُهُمْ = = = وأَصبحتُ في قومٍ وليْسوا بمُنْيَتي
شَفَيْنَا بِعَبْدِ اللهِ بَعْضَ غَلِيلِنَا = = = وعَوْفٍ لَدَى المَعْدَى أَوَانَ اسْتَهَلَّتِ
إِذا ما أَتَتْنِي مِيتَتي لم أُبالِهَا = = = ولم تُذْرِ خَالاتِي الدُّمُوعَ وعمَّتِي
ولو لم أَرْمِ في أَهْلِ َبْيِتِيَ قاعداً = = = إِذَنْ جاءَنِي بينَ العمودَيْنِ حُمَّتِي
أَلاَ لا تَعُدْنِي إِنْ تَشَكَّيتُ، خُلَّتِي = = = شَفَانِي بِأَعْلَى ذِى البُرَيْقَيْنِ غَدْوَتِي
وإِنِّي لَحُلْوٌ إِنْ أُرِيدَتْ حَلاَوَتِي = = = ومُرُّ إِذا نَفْسُ العَزُوفِ اسْتَمرَّتِ
أَبِيٌّ لِمَا آبى سَرِيعٌ مَباءَتِي = = = إِلى كلِّ نَفْسِ تَنْتَحِي في مَسَرَّتِي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أجمعت: عزمت أمرها. استقلت: ارتحلت. (2) سبقتنا بأمرها: استبدت واستأثرت به. وكانت: أي فجأتنا بالإبل حتى أظلتنا بها. (3) يعيني: يأسف أن يرى رحيلها ولا حيلة له.
(4) زلت: ذهبت، من قولهم زل عمره: ذهب. (5) مليمة: من قولهم (ألام) إذا أتى مما يلام عليه. تقلت: تبغضت، والتبغض: مقابل التحبب. وقوله: (ولا بذات تقلت) أي: ليست ممن يقال فيها أنها تقلت، فأضاف الفعل على تقدير: ولا بذات صفة يقال لها من أجلها تقلت فلانة. وهذا البيت لم يروه أبو عكرمة.
(6) يقول: لا يسقط قناعها لشدة حيائها، لا تكثر التلفت، فإنه فعل أهل الريبة.
(7) الغبوق: ما يشرب بالعشي. تهديه لجارتها، أي: تؤثرها به لكرمها. إذا الهدية قلت: أي في الجدب حيث تنفد الأزواد وتذهب الألبان.
(8) تحل بيتها: فعل متعد بنفسه، ويعدى أيضا بالحرف. المنجاة: مفعلة من النجوة، وهي الارتفاع.
(9) النسي: الشيء المفقود المنسي. تقصه: تتبعه. أمها، بفتح الهمزة: قصدها الذي تريده. يقول: كأنها من شدة حيائها إذا مشت تطلب شيئا ضاع منها، لا ترفع رأسها ولا تلتفت. تبلت: تنقطع في كلامها لا تطيله.
(10) النثا، بالقصر وتقديم النون على الثاء: ما أخبرت به عن الرجل من حسن أو سيء، يقال نثا الحديث والخبر: حدث به وأشاعه. حليلها: زوجها.
(11) آب: رجع. (قرة) مفعول، وقد وردت تعديته في شعر آخر في اللسان 1: 212 أو هو على نزع الخافض. لم يسئل أين ظلت، لأنها لا تبرح بيتها. قال الأصمعي: (هذه الأبيات أحسن ما قيل في خفر النساء وعفتهن، وأبيات أبي قيس بن الأسلت) , وقد ذكرها الأنباري في الشرح 202.
(12) اسبكرت: طالت وامتدت. (13) حجر: أحيط. ريحت: أصابتها ريح فجاءت بنسيمها. طلت: أصابها الطل، وهو الندى. وإنما قال (عشاء) لأنه أظهر لرائحة الرياحين.
(14) حلية: واد بتهامة، أعلاه لهذيل وأسفله لكنانة، وبطن حلية في حزن، أي أرض غليظة، ونبت الحزن أطيب من غيره ريحا. الأرج: توهج الريح وتفرقها في كل جانب. المسنت: المجدب.
(15) الباضعة: القاطعة، يعني قوما غزاة. حمر القسي: غزوا مرة بعد مرة بعد مرة فاحمرت قسيهم للشمس والمطر. بعثتها: بعثت هؤلاء وغزوت بهم. يشمت: من قولهم (شمته الله) أي: خيبه، و(الشمات) بكسر الشين وتخفيف الميم: الخيبة.
(16) مشعل، والجبا: موضعان. السربة: الجماعة. و(أنشأت سربتي) أي أظهرتهم من مكان بعيد، يصف بعد مذهبه في الأرض طلبا للغنيمة.
(17) لن تضرني: لا أخاف بها أحدا. لأنكي: يقال نكى العدو ينكيه نكاية. أي أصاب منه. الحمة: المنية.
(18) أمشي: إشارة إلى غزوه على رجليه وأنه لا يركب. على أين الغزاة: على ما يصيبني من تعب الغزوة.
(19) أراد بأم عيال تأبط شرا. لأنهم حين غزوا جعلوا زادهم إليه، وكان يقتر عليهم أن تطول الغزاة بهم فيموتوا جوعا، والأزد تسمي رأس القوم وولي أمرهم (أما). وفي اللسان عن الشافعي (قال: العرب تقول للرجل يلي طعام القوم وخدمتهم: هو أمهم) واستشهد الشافعي بهذا البيت. أوتحت: أعطت قليلا، كأقلت. وقد ساق القول عن تأبط شرا بضمير المؤنث مسارقة للفظ (أم)، وقال الأصمعي: (وكنايته عن تأبط شرا كأوابد الأعراب التي يلغزون فيها).
(20) العيل والعيلة: الفقر. أي آل تألت: أي سياسة ساست؟ يقال ألته أؤوله أولا: إذا سسته، وبابه (قال).
(والآل) هو (الأول) قلبت واوه ألفا، ولم يذكر هذا في المعاجم. (وتألت) قال في اللسان 5: 236: (تفعلت من الأول، إلا أنه قلب فصيرت الواو في موضع اللام). ولم يذكره في مادته.
(21) هذا البيت زيادة من منتهى الطلب. ونقله أيضا مصحح الشرح في حاشيته عن المرزوقي. ضن: بخل، وهو بكسر الضاد، والفتح لغة فيه، نقلها اللسان عن ابن سيده.
(22) مصعلكة: صاحبة صعاليك، وهم الفقراء. ورواية اللسان: (عفاهية) بدل (مصعلكة)، على أنها رواية. وقال: (وقيل: العفاهية الضخمة، وقيل: هي مثل العفاهمة، يقال: عيش عفاهم، أي ناعم. وهذه انفرد بها الأزهري، وقال: أما العفاهية فلا أعرفها، وأما العفاهمة فمعروفة). لا يقصر الستر دونها: لا تغطي أمرها، يقول: هي مكشوفة الأمر. لا ترتجي أن تكون مقيمة، إلا أن تريد هي ذاك فتجيء.
(23) الوفضة: جعبة السهام. السيحف: السهم العريض النصل. آنست: أحسست. العدي: جماعة القوم يعدون راجلين للقتال ونحوه، لا واحد له من لفظه. اقشعرت: تهيأت للقتال.
(24) بارزا نصف ساقها: يريد أنه مشمر جاد. العير: حمار الوحش. العانة: القطيع من حمر الوحش، وإنما شبهه بعير العانة لأن الحمار أغير ما يكون، فهو يتلفت إلى الحمير يطردها عن آتنه.
(25) الأبيض: السيف. الصارم: القاطع. الجفر: كنانة السهام، وهو مما فات المعاجم، وإنما فيها بمعناه (الجفير) يعني أنه يرمي بما في كنانته ثم يحارب بسيفه.
(26) الجراز: السيف القاطع. أقطاع: جمع قطع، بكسر فسكون، كالقطعة. والمراد بأقطاع الغدير أجزاء الماء يضربها الهواء فتتقطع ويبدو بريقها. المنعت: مبالغة من النعت، وهو الوصف بالحسن. ولم يذكر هذا الحرف بالتضعيف في المعاجم. وهذا البيت لم يروه أبو عكرمة.
(27) الحسيل: جمع حسيلة، وهي أولاد البقر. شبه السيوف بأذناب الحسيل إذا رأت أمهاتها فجعلت تحرك أذنابها. والنهل والعلل هنا للسيوف.
(28) مهديا: محرما ساق الهدي. بملبد: بمحرم لبد رأسه، أي جعل في رأسه شيئا من صمغ ليتلبد شعره. يريد: قتلنا رجلا محرما برجل محرم. وفي رواية الأغاني (قتلنا حراما مهديا بلمبد) ومثلها في رواية الأنباري في ترجمة للشاعر 198 والخزانة 2: 18 بلفظ (قتلت). جمار منى: أي عند الجمار. المصوت: الملبي. وهذا البيت لم يروه أبو عكرمة.
(29) سلامان بن مفرج: هم الذين أسروه فداء، ومنهم حرام بن جابر قاتل أبيه. أزلت: قدمت.
(30) يريد: هنئ بي بنو سلامان حين أخذوني في الفدية، وما انتفعوا بي. بمنيتي: أي ليس هؤلاء القوم ممن أحب وأتمنى. وقال أحمد بن عبيد: (الرواية) بمنيتي: أي بأصلي وعشيرتي، ومن روى بمنيتي فقد صحف. ورواية أحمد توافق رواية الأغاني ومنتهى الطلب.
(31) الغليل: حرارة العطش، وهو هنا العطش إلى القتل. عبد الله وعوف: من بني سلامان بن مفرج. المعدى: موضع العدو، والمراد ساحة القتال. أوان استهلت: في الوقت الذي ارتفعت فيه الأصوات للحرب.
(33) لم أرم: لم أبرح. العمودين: لعله أراد بهما عمودي الخباء. الحمة: المنية. وهذا البيت رواه صاحب المنتهى ووضعه بعد البيت 32 وجعلهما آخر القصيدة، فأثبتناه هنا لمناسبته لما قبله. ونقل مصحح الشرح أنه ثابت أيضا في نسختي فينا والمتحف البريطاني.
(34) الخلة: الخليل. يطلب من خليله أن يعوده إذا مرض، وذلك أنه متطوح يلزم القفر مخافة الطلب. ذو البريقين: موضع. العدوة: المرة من العدو. يريد أن سرعة عدوه سلاح يشتفي به كرا وفرا.
(35) العزوف: المنصرف عن الشيء. استمرت: استفعلت من المرارة. يقول: أنا سهل لمن ساهلني، مر على من عاداني. (36) المباءة: الرجوع. تنتحي في مسرتي: تقصد إلى ما يسرني .
**= ثانياً : أضواء على الشاعر :
شاعر جاهلي فاتك صعلوك عدّاء من بني الحرث بن ربيعة بن الإواس بن الحجر ابن الهنو بن الأزد , ويضعه صاحب لسان العرب نقلا عن ابن الأعرابي بين ( أغربة العرب ) .
والشنفرى اسمه وقيل لقب له , ومعناه عظيم الشفه , واسمه ثابت بن أوس الأزدي , وكان يضرب به المثل في العدو , إذ كان أحد العدائين الثلاثة , وهو ابن أخت تأبط شراً , ومن المتوقع أن يكون ميلاده قريباً من عهد الإسلام ذلك أن الشنفرى كان على صلة بشاعر صعلوك أسلم فيما بعد وهو أبو خراش الهذلي فلعل ميلاده كان قريباً من الإسلام إذ أن أبا خراش عمّر وعاش حتى خلافة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – الذي انتهت خلافته عام 24هـ .
ومن الثابت أن الشنفرى قد نشأ في أحضان الحركة الصعلوكية فأخذ أخلاقهم وتربى على الخشونة والفتك والسلب المبكر , وغرست فيه مقومات العنف والسخط والغضب وكراهية كل الناس مما أباح لنفسه أن يقتل من يشاء متى شاء وفي أي مكان وزمان شاء لعدم وجود سلطة ضابطة تأخذ الجاني وتعاقبه .
**= ثالثاً : شعره :
للشنفرى ديوان شعر صغير طبع في لجنة التأليف والترجمة , ومما اشتهر له لامية العرب وهي تصور تصويراً حياً حياة الصعلوك الجاهلي وروحه البدوية الوحشية .
وبجانب هذه القصيدة نجد له قصيدته التائية ولو لم يصلنا إلا تائيته لكان ذلك كافياً في تصوير حياته ومغامراته .
والدارس لديوان شعر الشنفرى والمطلع على شعره بوجه عام يخرج بأن الشعر قيل في غالبه في موضوع : القتل والفتك والتهديد والافتخار بالشجاعة والعدو والغزل والعفة والحكمة والمراصد .
**= رابعاً : صحة القصيدة :
إذا كانت لامية الشنفرى قد اعتراها بعض الشك ونسبت في بعض الروايات إلى خلف الأحمر فإن قصيدته التائية ثابتة له ولم يطعن أحد من الرواة الثقات في صحة نسبتها للشنفرى , فهي له دماً وروحاً ونفساً ونصاً وقلباً وقالباً وقد رواها أئمة الأدب والرواية دون أن يتعرضوا للشك أوالطعن في صحتها من أولئك الرواة الذين رووها صاحب الأغاني والمفضل الضبي صاحب المفضليات , والشيباني في تمثال الأمثال . وعدد أبياتها ستة وثلاثون بيتاً .
**= خامسًا : العوامل المؤثرة في شعره :
1- اتصاله بمشاهير شعراء الصعاليك كتأبط شراً وعروة بن الورد شكّل شخصيته الثورية المطبوعة بالقسوة والعنف والتمرد , إذ غرسوا فيه المبادئ الصعلوكية المادية والمعنوية والفنية فاقتربت معانيه وموضوعاته من معانيهم وموضوعاتهم .
2- أثر النظام القبلي في نفسيته فقد ساعدت بلاد الجزيرة الجغرافية من حيث جدب معظمها ووجود الفقر المدقع لانعدام الزراعة أو الأنهار أو المياه وندرة سقوط الأمطار ثم وجود النظام القبلي ورسوخه في نفوسهم من حيث الطرد والخلع والإبعاد والتبرؤ من الخارجين على نطاقه وأعرافه ساعدت كل هذه العوامل على نشوء حركة الصعاليك واتساع خطرها وشمول نفوذها إلى مناطق عديدة داخل الجزيرة إذ كانوا يقطعون الطرق ثم يغيرون على القوافل التجارية ويسلبونها .
3- أثر الفوارق الاجتماعية والاقتصادية على نفسيته فقد لعب الفقر المدقع في حياته دوراً فعالاً في تشكيل حركة التمرد وجعلته يشعر بالنقمة والكراهية والمقت على ذوي الثراء الأشحّاء فعبر بصدق عن هذه الظاهرة .

**= سادساً : جوّ القصيدة :
قيل : إن السبب في غزو الشنفرى الأزد وقتلهم أن رجلاً وثب على أبيه فقتله , والشنفرى صغير , وكان أبوه في موضع من أهله ولكنه كان في قلة , فلما رأت أم الشنفرى أن ليس يطلب بدمه أحد ارتحلت به وبأخ له أصغر منه حتى جاورت في فهم , فلم تزل فيهم حتى كبر الشنفرى , فجعلت تبدو منه عرامة , وجعل يكره جانبه .
وقيل أخذ الشنفرى أسيراً فداء في بني سلامان بن مفرج , وهو غلام صغير , فنشأ فيهم فلما أساؤا إليه وعلم بحقيقة أمره غضب عليهم وتوعدهم أن يقتل مائة رجل منهم فقتل تسعة وتسعين , وكان ممن قتل منهم رجل يقال له حرام بن جابر قتله بمنى وسط الحجيج حين أخبر أنه قاتل أبيه وأشار إلى مقتله في البيت ( 28 ) , ولعل الرواية الأولى أقرب إلى الصحة .
**= سابعًا : الأفكار الرئيسية التي تدور حولها هذه القصيدة :
1- مطلع القصيدة وفيه حديث عن الاغتراب ورحيل زوجته أم عمرو ووصف لخروجها من البيت 1- 3 .
2- الندم على فراق حبيبته والتهيؤ لوصفها في البيت 4 .
3- حديث شامل عن عفة وحشمة زوجته وسعادته بها من البيت 5- 11 .
4- وصف حسي نادر لهذه المحبوبة في البيت 12 .
5- وصف ريحها وطيبها وعذوبة حديثها معه من البيت 13-14 .
6- وصف قيادته المثالية لرفاقه الصعاليك في غزوة معهم من البيت 15- 18.
7- وصف حرص خازن الطعام ( أم العيال ) وسياسته الاقتصادية من 19-22.
8- وصف السلاح بكافة أنواعه من البيت 23-27 .
9- حديث عن ثأره من قاتل أبيه من البيت 28-32 .
10- وصف لبيان جرأته وعدم مبالاته بالموت من البيت 33- 34 .
11- حكمة رائعة تختم بها القصيدة 35-36 .
**= ثامنًا : شرح القصيدة :
== الأبيات من ( 1-4 )
بدأ يتحدث الشاعر عن رحيل زوجته أميمة أم عمرو السريع والمفاجئ , ويستهل مطلع القصيدة بـ ( ألا ) للأهمية وتحقق ما بعدها , إنها تنهيدة نستطيع من صوتها وجرسها تلمس نفسية الشنفرى المفجوعة والمصحوبة بالأسى والحزن والذهول , ويبين أنها قد عزمت على الفراق والرحيل واستبدت بأمرها وأخذت قرارها بنفسها دون أن تخبر زوجها الذي تحبه وتعشقه ويعشقها , وحتى لم تقدر أن تودع جيرانها الذين ألفتهم وأحبتهم فانطلقت تاركة وراءها زوجها حزيناً متحسراً ومعزياً نفسه بأن النعم لا تدوم ومصيرها الزوال , وأميمة واحدة من تلك النعم الراحلة المعدومة إن مشهد الوداع ولحظته الزمنية وما يتبعه منه من آلام أحدث شرخاً كبيراً في كيان الشاعر النفسي دفعه إلى استذكار زوجته الراحلة في بناء علم نفسي جديد يعيش فيه في حالة تواؤم وتوازن .
== الأبيات من ( 5-14)
تتحدث هذه الأبيات الجميلة عن النموذج الأنثوي يظهره في صورة متكاملة الأبعاد للأنموذج الأنثوي ضمن أبعاد ثلاثة : البعد النفسي , والبعد الجسمي , والبعد الاجتماعي فقد نبضت في الأبيات الصفات المعنوية والنفسية .
فزوجته وقور خجول شديدة الحياء عفيفة سمحة حسنة التبعل والأخلاق المثالية والآداب الرفيعة السامية , لا تتناولها الألسن ولا يسقط قناعها أثناء مشيها قد قطعت دابر النظرات والشهوات , ولا تكثر من التلفت حتى لا تحوم حولها وعليها الشبهات والشكوك والطعون والإفك , وإنما تسير في طريقها غاضة بصرها كأن لها في الأرض شيئاً تبحث فيه .
وهي لشدة حيائها فإن الكلام يموت على شفتيها توجز في العرض والطلب وهي حريصة على سمعتها وعلى سمعة بيتها , وتتخذ من ضميرها رقيباً يحاسبها ويجنبها الخطأ واللوم والانحراف هذا من جهة البعد النفسي .
أما من جهة البعد الاجتماعي الذي ركز عليه الشاعر في رسم صورة زوجته فقد اشتمل على السلوك المعرفي في قيمتي الوفاء والكرم فالوفاء قيمة ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلى الصعلوك إنه يبحث دائماً عن الوفاء الذي يوفر له الراحة النفسية والطمأنينة والاستقرار .
ومن هنا ركز الشنفرى على وفاء أميمة وحبها له في غيبته وفي حضوره , فهو شديد الثقة والاعتزاز بها فهي تراعي عهده وتصون كرامته وعرضه وإذا آب إليها بعد رحلة أو غارة وقعت عيناه على ما يسعده ويسره .
وهي أيضاً كريمة مع جارتها حسنة المعشر والمعاملة تؤثرهن على نفسها ولو كان بها خصاصة , وفي أوقات الشدة والجدب والقحط تهدي لهن ما تحتفظ به في بيتها من زاد أو لبن وفي وقت بعيد عن الرياء .
وبهذا يركز على الكرم الحقيقي والتكافل الاجتماعي الذي ينبغي أن يهيمن على مجتمع الصعاليك الذي يعاني من الفقر وهنا تكمن قيمة الكرم الحقيقية باعتباره وسيلة لاستمرار الحياة وليس معنىً اجتماعياً . وإتماماً لأبعاد الصورة المثالية التي رسمها الشنفرى لأميمة والتي دفعت الأصمعي إلى القول عن أبيات مقدمة قصيدة الشنفرى : (( هذه الأبيات أحسن ما قيل في خفر النساء وعفتهن )) .
ونرى الشنفرى يتحدث عن البعد الجسمي مضيفاً عناصر جمالية حسية لا نظير لها فهي دقيقة نحيفة جليلة معظمة كاملة في أعضاء جسمها جمالاً وبهاء واكتنازاً وارتواءً وتناسقاً والذي ترغب العين في رؤياه فلو كان اكتمال الجمال داعياً إلى الجنون لجنت هذه السيدة المصونة الجميلة البهية النقية العرض .
وجاءت هذه الصورة وتلك المحاسن لتبين الانفرادية والتميز لها عن غيرها ولتجميل الصورة المعنوية الكلية ، وبعد هذا يذكر أن مجالسة امرأته قد جعلته ينتشي ويثمل حتى لكأن البيت قد شملته ريحانة معطرة منظراً وحديثاً وطيباً ورائحة ولطفاً وعطفاً , كناية عن طيب ريحها ورقة نفسها وكأن الطبيعة شاركتهم الانتعاش والفرحة .
ويستقصى في وصف الريحانة فيذكر موضوعها وهيئتها وفيه بعد جمالي إذ استقى جمال الصورة من البيئة .
== شرح الأبيات من ( 15-34)
يتحدث الشاعر في هذا القسم عن قصة غزو قام بها الشنفرى ومجموعة من رفاقه وفي طليعتهم تأبط شراً لأخذ الثأر من قاتل أبيه ويتمحور هذا القسم حول دوائر ثلاث :
الفخر بذاته والالتزام بها , والمجتمع القبلي وقوانينه , وآلات الحرب كالسيف والقوس والسهم .
فهو يظهر الجانب الذكوري الفخري { الأنا } متمثلاً في نفسه وصديقه وكيف أنه كان قائداً مثالياً لسرية من سرايا الصعاليك قد خرج من الأمور العاطفية المستقرة إلى حياة التمرد والقيادة والصعلكة وكأنه يبني علاقة بناء جديدة فقد انهدم عالم الحب وبنى عالم القيادة والتمرد .
وذكر أنهم جهزوا أنفسهم للغزو وحملوا القسي الحمر المتعطشة للدم الممهورة بالدم وأنهم خرجوا راجلين قد تعودت أقدامهم على المسير في وهج الشمس وحرارة الرمل بين الوديان والجبال والهضاب نتيجة للغربة التي عشتها والمرارة التي ذقتها والطبقية التي عانيتها والنار المتقدة منذ قتلهم أبي خرجنا مصرين على الجهد والعناء والتعب لتحقيق هدفنا السامي وهو القتل والفتك والسلب والاستيلاء على المغانم والأخذ بالثأر وقد حمل زادهم تأبط شراً ( أم العيال – ثابت بن جابر بن سفيان ) الذي نجح في رسم السياسة الاقتصادية فقد أخذ يقتر عليهم في الطعام خشية أن تطول بهم الغزوة فينفد زادهم ويموتوا جوعاً .
وقد نعته ( بأم العيال ) لأن العرب تقول للرجل الذي يقوم على طعام القوم وخدمتهم هو أمهم .
ومما لا شك فيه أن الشاعر قد أبرز التكامل بين الأنموذجين المثاليين حينما قارن بين الأمين { أم عمرو – أم العيال } فنراه يركز على وفاء وإخلاص تأبط شراً ورفاقه الذين هبوا لمساعدته من أجل الأخذ بالثأر من قاتل أبيه مثلما ركز على وفاء أميمة وإخلاصها في المقدمة , إنه يريد أيضاً عالماً جديداً أوسع قد تحرر من قيود الكبت القبلية .
ثم ينتقل الشاعر إلى الحديث عن الدائرة الثالثة التي تشمل السلاح بأنواعه فيبين أن في جعبته سهاماً عريضة أنصالها وأن أصحابه شجعان شاكو السلاح من رماح وقسي وسيوف وهم يجولون في ميدان القتال كالحمار الذي يطرد الأتن عن أنثاه في كل اتجاه وإذا داهمهم خطر فإنهم يسلّون السيوف من أغمادها وهذه السيوف بيضاء لامعة كأنها قطع الماء في الغدير حادة وهي تتحرك كأذناب الحسيل يمنة ويسرة حين رؤية أمهاتها وتنهل السيوف وتعل من دماء الأعداء وهذه السيوف كالملح ليس في الصفاء ولا في اللمعان فحسب بل الحياة له كالملح تماماً .
ثم يتحدث عن نتيجة الغزوة التي قام بها ورفاقه وبيّن أنهم قتلوا ( حزام بن جابر قاتل والد الشنفرى ) محرماً بمنى وسط الحجيج وساقه هدياً إلى الكعبة وهو بهذا العمل قد بلغ درجة عالية من الفخر والزهو وانتهاك النظم والقيم الاجتماعية والتقاليد المقدسة عند العرب , حيث قتله في مكان اتفقت العرب على قدسيته وزمان أجمعت العرب على حرمته . قال النعمان بن المنذر مناظراً كسرى أنوشروان : (( وأما دينها وشريعتها فإنهم متمسكون به حتى يبلغ أحدهم من نسكه أن لهم أشهراً حرماً وبلدا محرماً وبيتاً محجوباً ينسكون فيه مناسكهم , ويذبحون فيه ذبائحهم , فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه وهو قادر على أخذ ثأره وإدراك رغمه منه فيحجزه كرمه ويمنعه دينه عن تناوله بأذى ))
ولم يبق الأمر عند هذا الحد بل تخطاه إلى إرواء عطشه بقتل عبد الله وعوف من بني سلامان بن مفرج لأنهم أسروه وشاركوا في جريمة قتل أبيه وحرماه حنانه .
ويؤكد أن الموت ليس مفزعاً ولا مخوفاً لديه لأنه مستعد لاستقباله دائما وما يزيد ثباته أنه لن يكون هناك عمات وخالات تبكي عليه فهو يعيش بعيداً عن الناس , حياته قائمة على الصراع والغربة والتمرد .
فالبناء الفخري عند الشنفرى يرتكز على الأنا والتحدي والإرادة الصلبة الناتجين عن شعور البعد عن القبيلة وبما تسببه البيئة القاسية حوله وبما تفرضه عليه الحالة النفسية , كما يرتكز على الاعتماد على السلاح للدفاع عن النفس لإبراز قوته واكتفائه بذاته وأنه حياته الخالدة , ولم يكتف بالاعتماد على الأسلحة المادية والشخصية بل اعتمد على سرعته وعدوه وغزوه كراً وفراً وكأنها تمثل عدم الاستقرار للشاعر .
== شرح الأبيات من ( 35-36)
يعود الشاعر في خاتمة القصيدة للتركيز على الأنا وإظهار التحدي , وتبرز ذاتية الشاعر بقوة في الضدية بين حلو ومر وتوضح موقفه من غزوته , إنه يرسم خريطته الدبلوماسية والنفسية مبيناً أنه بين حالين لا ثالث لهما فهو حلو لمن يطلب حلاوته ويحترمه ويجازي الخير بمثله وهو مرّ على من يعاديه ويظلمه ويجازي الشر بالشر . وكأني به يضع القرار بيد الآخر ومنطوقه يفصح عن : أنه ليس لديّ دوافع وشذوذ إلى الصعلكة ولست إمعة حتى أعود إلى ما كنت عليه , لقد فرضت الأحداث والبيئة هذه الصعلكة والقسوة والتمرد عليه .
**= تاسعاً : أبعادها الفكرية والاجتماعية والتاريخية
1- لعل أول ما يبهرنا ونحن نقرأ هذه القصيدة الرائعة تلك الصفات المثالية التي تتحلى بها المرأة العربية الأصيلة والمتمثلة في أخلاقها ( العفة والكرم والإيثار وحفظ السر وغض الطرف والحشمة والحياء والتزين للزوج )
2- وللبعد الواقعي في قصيدة الشنفرى حضور واضح فالقصيدة تستمد نسيجها الفكري والمعنوي من خيوط الواقع ومن معطياته وترتبط بالحدث ارتباطاً وثيقاً ذلك لأنها تعبر عن تجربة واقعية حيّة عاشها الشاعر بكل أبعادها على أرض الحقيقة والواقع لا في أودية الخيال أو الوهم فكان قطبها الذي دارت حوله وفارسها الذي عانى تجربة ثأر وقتال شرس اصطلى بناره .
والمتأمل في هذه القصيدة يدرك عمق البعد الواقعي وقوة حضوره فيها من مطلعها حتى خاتمتها , كما يلحظ أن ارتباط الشاعر بهذا البعد قد حد من انطلاق خياله فلم يتح له أن يحلق بعيداً عن أرض الواقع فظلت قصيدته تنبض بروح واقعية قوية وإن لم تخل من وثبات الخيال , وتتجلى هذه الروح الواقعية في :
1- الاهتمام بالإطار الزماني والمكاني : ويتضح ذلك إما من بدء لحظة غضب زوجته وعزمها على الرحيل أو من لحظة تعرضه للطمة أو من بداية تمرده والتحاقه بالصعاليك أو من بداية خروجه من بني سلامان .
ولعله يتضح الإطار المكاني في تلفت أم عمرو – واقفة تحت أعناق المطي مستظلة بها – إلى قومها قبل الرحيل , أو في تذكر بياته بالبيت ومعاشرته لها أو حتى في أرض المعركة .
كذلك نلحظ أن حياة القبائل في العصر الجاهلي وخصوصا أهل البادية تعتمد على الرحيل ، ويتم التحضير للرحيل قبل أيام من موعده ، أو قد يكون الرحيل مفاجئا ، وهذا ما حدث لأم عمرو التي قررت الرحيل دون أن تودع حتى جيرانها ، وكان ذلك جليا في البيت الأول :
ألا أم عمرو أجمعت فاستقلت **** وما ودعت جيرانها إذ تولت
2- ملامح القائد المثالية : نستطيع من خلال قصيدته التائية أن نستكشف ملامحه وصفاته ومعالم شخصيته بصورة كاملة وتبرز في :
القيادة – الجرأة والإقدام – الاستماتة والاستبسال في القتال – الصبر والجهد – الكرم – الفتك – التشفي والتلذذ بالقضاء على الخصم – سرعة العَدْو – الموت في أرض المعركة – توزيع الأدوار في المعركة – المحافظة على السلاح والاعتزاز به – نتيجة المعركة – الإباء .
3- التفنن في تصوير الأسلحة والاعتزاز بها والحديث عن أنواعها كالسيف والسهم .
4- صوّر البيئة البدوية التي يعيشون فيها بكل مظاهرها : الصحراء بشعابها وجبالها وحيواناتها وأشجارها ووقت الغدوة والرواح والمساء والمبات والمغنم .
5- يبين ويتفاخر الشاعر بصفة الكرم التي تصل إلى قمتها عندما تصبح إيثارا وهي صفة يشتهر صاحبها في الجاهلية لما كان يعانيه الإنسان من جوع وفقر آنذاك ، وقد تجلى ذلك في قوله :
تبيت بعيد النوم تهدي غبوقها **** لجارتها إذا الهدية قلت
6- وتستوقفني بعض الإشارات التي تربط بين النص والبيئة والعصر كالإشارة الدينية في قوله :
قتلنا قتيلا مهديا بملبد **** جمار منى وسط الحجيج المصوت
فالمهدي : الذي يقدم الهدي في الحج ، وجمار : يقصد بها الحصى التي يرمي بها الحجاج في منى . ومنها أيضاً قضية الثأر وهي إشارة تربط بين النص وبين بيئة الشاعر التي اشتهرت بتلك الظاهرة وظهرت في قوله :
شفينا بعبد الله بعض غليلنا وعوف *** لدى المعدى وأن استهلت

والإشارة الثالثة :الصعلكة وهي الحياة التي عبر عنها الشاعر في أبياته بل أنه ذهب ليصفها ويفاخر بها ويؤكد الولاء لها :
خرجنا من الوادي الذي بين مشعل *** وبين الجبا هيهات انشأت سربتي
فالشاعر الذي فقد الانتماء للقبيلة وقبل ذلك الأرض جعل رئيس الجماعة في صورة الأم عندما كنى عن تأبط شرا بقوله : أم عيال .
**= عاشراً : أما آفاقها الفنية فقد عاش الشاعر الشنفرى تجربة الأسر والظلم والحرمان واليتم بعمق واستغرقته أحاسيس الانتقام والأخذ بالثأر استغراقاً تاماً فعبر عن تلك التجربة الثأرية البطولية بهذه القصيدة التي جاءت مضمخة بعبق الانتصار وعبير الانتقام نابضة بروح متوثبة متعطشة تستهين بالموت في سبيل تحقيق أشواق الروح وتطلعاتها .
والقصيدة مطبوعة بطابع العفوية والتلقائية في التعبير يقترب بها من درجة البوح ومناجاة النفس , ويضفي عليها ظلالاً من الألفاظ والصور دون محاولة للتأنق أو التصنع .
ولا شك أن قوة نبض التجربة في نفس الشاعر وحيوتها وامتلاءه بها قد ترك أثراً إيجابياً في قيمها التعبيرية وبنيتها الشعرية على السواء فأكسبها تماسكاً وتلاحماً من ناحية وانسجاماً وتدرجاً في المعاني من ناحية ثانية وتجانساً في الأحاسيس والمشاعر من ناحية أخرى .
وقد تمكن الشاعر من وضع قارئه في جوّ نفسي وفكري وشعوري مشحون بالانتقام والثأر والاستهانة بالموت والجراح في سبيله .
**= وهي وإن تعددت موضوعاتها ترجع إلى أصل موضوعي واحد تتفرع منه فليس التعدد هنا تعدداً في الموضوع وإنما هو تفرع في أغراض الموضوع .
كما تتألق الوحدة العضوية في قصيدة الشنفرى ويتضح ذلك جلياً في مقدمة القصيدة وكذلك في البيتين 27- 28 , ولذلك تكاد تتحقق القصة بمفهومها النقدي المعاصر .
**= والقصيدة تنطوي على روح قصصية تسري في أوصالها وإنك لتلمح هذه الروح والعناصر : التشويق والتسلسل المنطقي والخاتمة عبر السرد والرسم مكتملة في تائيته من البيت 13-36 فنحن أمام قصة طويلة أتحفنا بكثرة أحداثها , ومما لا شك فيه أن هذه الروح قد أضفت على القصيدة طابع التشويق ومدته بعنصر الوحدة الموضوعية والفنية .
**= كذلك تتضح الروح القصصية من خلال عناية الشاعر برسم ملامح وسمات شخصية محبوبته أميمة فقد أحاط بذلك من بداية القصيدة وحتى البيت الرابع عشر .
**= وتخلو القصيدة تماماً من المقدمة الطللية وهذا أمر طبعي فالشاعر مثلوم ومشغول بالغارة والانتقام ، فليس لديه الوقت الكافي لئن يقف ويبكي لذا خلت القصيدة من المقدمة الطللية .
وعلى الرغم من ارتباط الشاعر بالحدث وبالواقع ارتباطاً وثيقاً إلا أن الشاعر لم يهمل الاعتماد على الخيال ولم يتخل عن التصوير بوصفه وسيلة مهمة من وسائل التعبير عن التجارب الشعورية : فقد صور الشاعر في البيت الثاني رحيل أم عمر التي عملت برأيها ولم تأخذ برأيه في البقاء بصورة وصفية حقيقية وقد وقفت تحت أعناق الإبل مستظلة بها تنظر إلى قومها قبل الرحيل , وهنا يستغل الشاعر ما لصفات صوتي الطاء والظاء في رسم هذه الصورة فصوت الطاء مهموس شديد يجاوب صدى صوته مع التجويف الأنفي ليعطي دلالة ما لهذه الإبل من قوة صامتة تتناسب معها , أما صوت الظاء المجهور الرخو فهو يوحي بالنقاوة والظهور وهو يتناسب مع شعور أم عمرو وهي مستظلة بأعناق الإبل تحميها من حرارة الشمس في تلك الصحراء القاحلة . ومصدر الصورة من البيئة الاجتماعية كالزواج والرحيل وكذلك الحيوانية .
ويشبه محبوبته الحصان الرزان في البيت التاسع وكأنها من شدة حيائها إذا مشت تطلب شيئاً ضاع منها لا ترفع رأسها ولا تلتفت قد حددت وجهتها بمن يبحث في الأرض عن شيء ضاع منه , ويستقي صورته من البيئة الاجتماعية .
وفي البيت الثالث عشر يشبهها بأطيب الروائح وهي تفوح شذى وعطراً في كل مكان , ومصدر الصورة هنا من البيئة النباتية .
وفي البيت الرابع والعشرين يشبه الفرسان في أرض المعركة وهم يجولون في ساحتها كالحمار الذي يطرد الأتن عن أنثاه , ويشبه السيوف بأذناب الحسيل – أولاد البقر – إذا رأت أمهاتها تحرك أذنابها في البيت السابع والعشرين وهو في هذا التشبيه والذي قبله يعتمد على البيئة الحيوانية في استقاء صورته .
وفي البيت السادس والعشرين يشبه السيف في لونه وبريقه ولمعانه بلون الملح وهو هنا يستقي صورته من البيئة الاجتماعية .
**= ومعظم صوره مادية تدرك بالحواس الخمس : البصرية والسمعية واللمسية والشمية .
كذلك تظهر قدرة الشاعر في ما ابتدعه خياله من صور فنية واقعية حيث يرصد حركة أم عمرو ورحيلها ويرصد لنا أيضاً جو المعركة في صورة حركية فالموت يلاحق الشاعر أو يرقبه ويتحين الفرصة للانقضاض عليه والسيوف تنهل من الدم وتعل , والأشخاص يبكون , وأم العيال تقوم بتدبير الطعام , إنك لتلمح صوراً حيوية متحركة .
كذلك تزهو صورته الحركية السمعية الدينية وسط الحجيج بمنى حينما قدّم غريمه هديا يساق للكعبة الشريفة . ومما لا شك فيه أن استخدامه الرموز الطبيعية والحيوانية والكونية تكشف لنا عن ارتباط الشاعر بمكوناته الرئيسة .
**= وعاطفة الشاعر المتلونة بين الحزن والفخر وتجربته الشعرية الناجعة جعلته يتقلب بين أحضان المفرادت الشعرية , فكلما كانت التجربة الفنية قوية وحية وكانت العاطفة صادقة وثابتة ومستمرة في نفس الشاعر تأتي الألفاظ وثيقة الصلة بها قادرة على تجسيدها وتفجير ما يتصل بها من حالات وجدانية في نفس المتلقي تمكن الشاعر من توصيل طاقاته الشعورية إلى قارئه , إنها حياة قائمة على التنقل والكر والفر والثأر والاعتزاز بسلاحه رمز بقائه وسر خلوده .

**= ويمكننا أن نتلمس المعجم اللفظي من خلال المحاور الآتية :
1- ألفاظ الحزن والفراق والوداع تتفجر في قوله : { ألا أم عمرو , أجمعت , فاستقلت , ودعت , جيرانها , أظلت , بعيني , أمست , باتت , أصبحت , فواكبدا , أميمة , طمعت , نعمة العيش , فيا جارتي }
2- ألفاظ الحشمة والعفاف والجمال المعنوي وتبرز في قوله : { غير مليمة , ولا بذات تقلت , ولا بذات تلفت لا سقوطا قناعها , تهدي غبوقها لجارتها , الهدية , تبلت , عفت , جلّت , بمنجاة , آب قرة عينه , ظلّت }
3- ألفاظ الجمال الحسي الطاهر وتتراقص في قوله : { فدقت واسبكرت وأكملت , الحسن , بريحانة , نوّرت , لها أرج , الجنون بجمالها }
4- ألفاظ حربية تنم عن فروسيته وتبرز في قوله : { باضعة , حمر القسي , يغزو , خرجنا , حمتي , أمشّي الرواح والغدوة , وفضة , سيحف , العَدِيّ , اقشعرت , فزعوا , طارت , أبيض صارم حسام , سلّت جفرها النهل والعل , القتل , الجزاء , الزلل , غليلنا , شفينا , استهلت , ميتتي وحمتي , نفس العزوف }
5- أسماء الأماكن والأعلام والحيوان والنبات والجماد والزمن وكل هذه تصور حياته وتطوراتها وتقلباتها بكل أبعادها نلتقط من القصيدة ما يسعف صدق التجربة من مثل : { الأرض , الوادي , البيت ومشعل والجبا والمعدى والعمودين وجمار منى وسط الحجيج , ذو البريقين , أم عمرو , أميمة , النسوان , الجن والأنس ، أم العيال , سلامان بن مفرج , عبد الله وعوف , أعناق المطي , كعير العانة , الحسيل , بريحانة , الغدير , الملح , الطلّ , القسي , الوعاء السيحف , الساق , الحسام , فأمست وأصبحت وباتت , بعيد النوم , عشاء , رواحي وغدوتي } .
**= وترقص القصيدة على البحر الطويل , حيث استقصى الشاعر جلّ معانيه واستطاع البوح عما يكنّه من خلاله فالبحر الطويل يعطي إمكانيات للسرد والبسط القصصي والعرض الدرامي وهو يعكس قوة الإيقاع ورصانة الأداء وفخامته , وله رنة موسيقية قوية تناسب معاني التغني بجلالة الحدث وفداحة الرحيل والثأر فجاءت القصيدة قوية الإيقاع رصينة الأداء مناسبة للحدث .
**= وتسهم القافية التائية في كشف تجربة الشاعر ومعاناته فالتاء حرف انفجاري مهموس وبهذا نجد أنفسنا أمام صفة قوية هي الانفجار وصفة ضعف هي الهمس تقابلان علامتي الرجل الذي يمثل القوة والمرأة التي تمثل الضعف على الترتيب لترسيخ ذلك الجو من الصراع بين طرفين داخل الذات , ومن أجل مزيد من الإحساس بمرارة هذا الصراع واستنفادة طاقة الشنفرى وقوته جاء الروي مهموساً .
ثم إن حرف التاء قد هيمن على القصيدة وامتد على جسدها بكاملها وشكل العمود الفقري فيها وهو يرمز في الوقت نفسه لأميمة زوجته الذي ذكرها مرتين بالاسم ومرتين بالكنية وفي ذلك الذكر انكسار وتذلل وشدة وحسرة وخضوع .
**= وتمتاز القصيدة بنغمها الموسيقي الداخلي الرائع ومرد ذلك إلى نجاح الشاعر في اختيار المفردات وترتيبها وما يتبع ذلك من حركات الإعراب والمد وعليه فقد وفق الشاعر أيما توفيق في التعبير عن خلجات نفسه وذبذبات مشاعره وتتراىء لنا هذه النغمات الموسيقية المتساوية ذات الدلالات الصرفية في مثل قوله 🙁 أمست فباتت فأصبحت – فدقت وجلّت –جمعت – استقلت – تولت أكملت – ودعت – خرجنا – بتنا قتلنا – شفينا – جزينا – جيرانها – غبوقها – قناعها – بيتها – حليلها – غليلنا – أي آل تألت – حلاوتي – عدوتي – عمتي – منبتي ..)
**= كذلك تلحظ أن الشاعر قد أكثر من استخدام المدود والألفاظ الممدودة وتلمس قوله : ( فوا كبدا ، آب مآب ) وغيره تجد أنها تعبر عن الندم والتفجع والتحسر على زوال النعمة وطول المعاناة وعمق الالتياع وعظم المصاب وفداحته , حقاً لقد كانت أصوات المدود شبيهة بالموسيقا التصويرية التي ترافق الحركة .
ويستخدم الشاعر التضعيف المكرر لإكساب المعنى طاقة إضافية فقوله : ( أمّ – ودّعت – استقلّت – تولت – فقضّت – حلّت – ظلّت – قرّة – وقّت واسبكرّت – جنّ ) استخدمه لإظهار لوعته وغربته وتقلقل حياته وعدم استمرارها وإبراز محبو بته في صورة مثالية , وفي قوله : ( أمشّي – أقلّت ظنّ ) إبراز للمعاناة والتحمل والجهد , وفي قوله : ( سلّت – علّت – المصوّت – اقشعرّت – ملبّد – قدّمت – هنّى – مسرّتي ) إظهار للفخر والزهو والطرب .
**= ويعد التكرار إحدى الوسائل الفنية التي أحسن الشاعر استخدامها , ومما يعطي التكرار أهميته الفنية وقيمته الجمالية أن يكون اللفظ أو العبارة المكرران وثيقي الصلة بالتجربة الشعرية وبالحالة النفسية التي يصدر عنها الشاعر ذلك لأن التكرار في حقيقته إلحاح على جهة هامة من العبارة ذا وظائف دلالية كالتقرير مثلاً أو نفسية كالبوح بالشكوى أو موسيقية إيقاعية .
**= وقد جاء التكرار على مستويات منها :
مستوى الإيقاع ونوع الكلمة نحو : ( فدقت وجلّت واسبكرّت وأكملت , تبيت ، بيت ، بيوت ، وهنّىء وهنأتهم أبي آبى مباءتي , الجوع وجياع , وقتلنا قتيلاً ) , أو تكرار الكنية والعلم نحو ) أم عمرو , أميمة ) . أو تكرار الظرف نحو : إذا للتوكيد ولما يستقبل من الزمن أو على مستوى الدلالة فقد كرّر دلالة ( حلو ) في بناء ( حلاوتي ) وكأني به يريد أن يؤكد على أن يتمتع بسهولة المعاشرة وإن كان هذا يتعلق بشرطية المراد من هذه الصفة لذلك كرر الكلمة على أنها تقرير لهذه الفكرة , ولم يعد الشاعر إلى تكرار المقابل لهذه الدالة في الشطر الثاني وكأنه بهذا التكرار يفيد أنه سهل المعاشرة أكثر مما يقابلها من سوء المعاشرة
قوله : تحل بمنجاة من اللّوم بيتها ​*** إذا ما بيوت بالمذمة حلّت
ويعتمد الشاعر في مدح أميمة التي ذكرها على عقد مقارنة بين وقوع اللّوم وأثره في بيتها وفي بيوت غيرها وخط الموازنة يبدأ وينتهي من تكرار دالة { يحل } بينما يثبت تأثيره إذا حلّ ببيوت غيرها ومن هنا كشف الشاعر عن مدى قوة التكرارية بهذه الموازنة التي تعطي الشيء ونقيضه .
وتظهر غلبة بعض الأصوات وسيادتها داخل القصيدة وكأنه يعمد إلى هذه الأصوات ويقصد إليها قصداً وذلك لما يرى لها من أهمية خاصة في التعبير عما يجيش في نفسه والتركيز عليها من ناحية وللأثر المرجو في نفس المتلقي من ناحية ثانية وهذه الأصوات { الراء اللام الميم التاء الصاد الطاء الظاء } لها خاصية الوضوح السمعي والظهور والتعبير وكذلك حرف الفاء لما فيه من الإحاطة الدائمة والرحيل المستمر وما تحدثه من إيقاع موسيقي يتناسب وجو الشاعر التمس هذا في قوله : { فباتت فأصبحت فقضّت فاستقلت فولت }
ويفرض على القصيدة رفضه التام لهذا الرحيل ولهذه الحياة ولهذه الصعلكة حينما يتنهد ويعزف قيثارته على الحرف الصوتي { لا } فلا لكل ما يعيقني .
وتضفي ياء المتكلم إيقاعاً داخلياً يسهم في تعميق الإحساس بما يتعرض له الشاعر من خطر القتل ولوعة الحنين والفراق وديمومة الحب . إنها وسيلة للتعبير عن الحالة النفسية التي يعيشها .
ويستخدم الضمير ( نا ) في مثل قوله : { شفينا , جزينا } ؛ للزهو والطرب والفخر والتعظيم وإعلان أن الجميع غاضبون لأمر الشنفرى وأن المصاب جلل واحد فكان التنفيذ من الجميع , وفي قوله : سبقتنا لعظم الأمر .
**= وتطالعنا بعض الظواهر البلاغية كالتصرّيع في البيت الأول لجذب انتباه السامع ولإحداث كثافة موسيقية مؤثرة ولأنها تحرك الإحساس بالقافية في نهاية البيت قبل الوصول إليها .
ويمد جناس الاشتقاق القصيدة بلون آخر من التنويع في إيقاعاتها الداخلية أتاحه تكرار الأصوات في الألفاظ التي يجمع بينها جناس الاشتقاق فضلاً عما يعبر عنه ذلك من تأكيد المعاني والأحاسيس المرتبطة بالألفاظ المتجانسة تأمل الكلمات التالية : { جُنّ وجّنت , وتحل وحلت , وهنىء وهنأتهم , قتلنا قتيلاً , بريحانة ريحت } وكل هذه المفردات توحي بالزهو والانتعاش .
كذلك تطالعنا المقابلة في قوله :
تحل بمنجاة من اللوم بيتها *** إذا ما بيوت بالمذمة حلت
ولا يخفى عليك ما في البيت من كناية عن عفتها فقد نفى اللوم عنها بأن نفاه عن بيتها الذي تقيم فيه , وذلك يستلزم نفي اللوم عنها , وقد عبر في البيت بـ ( يبيت ) دون يظل لأن الليل مسرح الفجور وانتشار المقابح .
وفي قوله : { نعمة العيش } كناية عن أميمة وفيها من إيحاءات السلب والفقدان ما يلهب عاطفة الشاعر , وفي قوله : { أعناق المطي } كناية عن الرحيل وفيها ما يضرم نيران الفراق والوداع عنده .
كذلك نجد التضاد في حياة الشنفرى حياة الاستقرار والسعادة والاطمئنان مع زوجه أميمة وحياة الصعلكة والتمرد والقتل وهذا يعطينا وفرة وافرة من حياته وتطوراتها وعلاقاتها بالبيئة والحدث اقرأ إن شئت : ( أمست وأصبحت ويغنم ويشمت أكثر وأقلت رواحي وغدوتي القتل والجزاء والحلو والمر والخالة والعمة )
كذلك استطاع الشاعر أن ينتقل بين معانيه بسلاسة فائقة فتراه يحسن التخلص في البيت الحادي عشر والخامس عشر , ويستخدم الالتفات ولا شك أن الانتقال من صيغة من صيغ الكلام إلى أخرى يحقق أكثر من غاية فنية فهو يضفي على القصيدة عنصر الإثارة والتشويق كما يلقي أضواء كاشفة على الحالة النفسية والشعورية للشاعر فقد يؤثر التعبير بصيغة الغائب لأنها تحمل دلالة على بداية انتقال ذاته من واقعها الراهن إلى غدها المجهول , وقد يعبر به دلالة على حب أميمة وجيشانه العاطفي تجاهها كما في البيت الثاني , وقد يلتفت من المنفصل إلى المتصل كما في البيت الخامس لشدة ارتباطه بها وجذبه لها كلما حاولت البعد عنه .
ويستخدم التقديم ففي قوله : { إذا ما أتتني منيتي لم أبالها } قدّم الضمير ليؤكد المراد من أن هذه الحالة تنحصر في شخصه وهي حالة الموت , فالموت واقع لا محالة إلا أن الآثار المترتبة عليه متعلقة بالشاعر فقط فهو يشير إلى أنه إذا مات لا يبالي مع علمه بموقف أهله منه لذا يقرر أن أهله لن يبكوا عليه لأنه لن يجد أحداً يبكي عليه .
وكذلك تقديم الخبر في قوله : { بريحانة , ولها وفضة } للقصر والخصوصية ليخرج المتلقي من مفهوم التعميم والكلية , وتقديم الحال في قوله { تحل بمنجاة } للاهتمام .
ويحذف اسم كان في البيت الثاني والثالث في أربعة مواضع للتقرير والإفادة بتجدد الأزمنة وتقلبها .
وتجد الاعتراض في قوله : { ألا لا تعدني – إن تشكيت خلتي – شفاني } . وفي قوله : { وأم عيال – قد شهدت – تقوتهم } . وفي قوله : { تراها – كأذناب الحسيل صوادراً – وقد نهلت} , ولا يخفى عليك سرّ هذا الاعتراض فإما أن يكون تنويهاً بشأن المخاطب أو تقريراً أو إيغالاً أو نحو ذلك .
وقد يؤثر التعبير بصيغة الغائب لأنها تحمل دلالة على بداية انتقال ذاته من واقعها الراهن إلى غدها المجهول , وقد يعبر به دلالة على حب أميمة وجيشانه العاطفي تجاهها كما في البيت الثاني , وقد يلتفت من المنفصل إلى المتصل كما في البيت الخامس لشدة ارتباطه بها وجذبه لها كلما حاولت البعد عنه .
* وبعد فمهما يكن من أمر فإن شعر الشنفرى خاصة وشعر الصعاليك عامة يظل لوناً متميزاً من ألوان الشعر الجاهلي في ارتباطه الوثيق بالبيئة الصحراوية التي تعتبر مصدراً هاماً من مصادر صورهم وأخيلتهم ومعجمهم اللفظي , وهذا ما نلمحه من غرابة وخشونة وقوة سبك وانتقائية مطبوعة بأسلوب بعيد عن الصنعة والغرابة والتكلف .
* لقد استطاع الشاعر من خلال رسمه لنموذجين عبر صيغة جمالية توشحت بقالب قصصي فني مميز أن يكشف عن تصوره لطبيعة المجتمع المتكامل الذي يتوق إليه الصعاليك ويركز على القيم والمزايا المعنوية الغائبة في مجتمعه , ويبرز صراع الذات في سبيل رغبتها في تطويح سلطة الاضطهاد من أجل بناء حالة تصالح متكافئة بينه وبين المجتمع .
* ولعله من الوضوح بمكان أن هذا التحليل قد قام على اقتناع تام بأن العلاقة بين النص وقائله من ناحية والظروف المحيطة به من ناحية ثانية علاقة جدليّة ووثيقة ؛ فالنص لا بد أن يحمل بعض طوابع شخصية قائله , وبالتالي فإن دراسة النص أسهمت في الكشف عن جوانب من شخصية القائل , كما أن التعرف إلى القائل وإلى العوامل التي شكلت شخصيته الفنية تسهم في إضاءة النص واكتناه أسراره .
ولذا فإن هذا التحليل لا يعير الدعوات الحديثة التي تروّج لنظرية موت المؤلف وبتر النص عن سياقه التاريخي والاجتماعي وعن جميع الظروف المحيطة به بدعوى فنية النص أو إطلاقه من قيود الزمان والمكان , فما النص في أي تحليل له إلا ثمرة طبيعية لكثير من العوامل التي تسهم في إنتاجه وفي مقدمتها قائله وسياقه التاريخي وإطاره الاجتماعي .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى