زاوية منفرجة
أنتمي الى جيل تمتّع بالدهشة. جيلٌ شهد الطفرات والتحولات الكبرى في مجال المخترعات والاكتشافات، بينما جيل الشباب المعاصر يرى أن كل ما هو مبهر من حوله، على أنه “عادي”، أما نحن فقط انبهرنا بالكتشاب والمايونيز والراديو والتلفزيون، والتلفون والسندويتش، وعموم الوجبات التي تتسم بـ”السرعة”. ولهذا فعندما يسرد أبناء وبنات جيلي ذكريات الطفولة والصبا لعيالهم، يحسبهم العيال ديناصورات أفلتت من الانقراض
وأقرّ واعترف بأن هناك محطات في حياتي، كلما زرتها هتفت بـ”المصري”: كنا فين وبقينا فين. خذ مثلا تجربتي في فترة العيش في شمال السودان النوبي، عندما قدمت في المرحلة المتوسطة، وفي ليلة النشاط الأدبي محاضرة عن ”سبل كسب العيش في السودان” باستقراء مقرر الجغرافيا في المرحلة الابتدائية، فقدم لي أحد المدرسين جائزة، كانت علبة حسنة الشكل عليها كلام باللغة الانجليزية “من خارج المقرر”، واحتفظت بالعلبة لمدة طويلة، وأنا لا أعرف ما فائدتها وقيمتها، وبعد أكثر من سنة او سنتين، سافرت بتلك العلبة الى مدينة كوستي في السودان الأوسط لزيارة والدي، وعرضتها على قريب لي نشأ في المدينة، ثم جلسنا في مكان منعزل وأتينا بسكين ومطرقة وأزلنا غطاءها، ووجدنا بداخلها مواد كريهة الرائحة تجوس فيها ديدان صغيرة، وعرفت لاحقا أنها كانت علبة كرز منتهية الصلاحية، وضاعت عليّ بذلك طفرة طبقية مبكرة، ولم أعرف طعم الكرز إلا بعد مرور نحو عشرين سنة على نيلي لتلك الجائزة.
وهناك المحطة التي جعلتني مهيأ نفسيا وعقليا لأهوال يوم القيامة، لأنني شهدت جانبا منها، أو ما حسبت أنه جانب منها، وكنت وقتها تلميذا في المدرسة الابتدائية، وكان الجو شتائيا عندما ظهر سيف أبيض طويل ومتجانس الشكل بعرض السماء، فانفجرت آلاف الحناجر بالعويل والصراخ: ويي بيووو وي بيوو. هذه هي الصرخة النوبية التي تقابلها باللهجة المصرية: يا لهوي، يا خرابي، يا مصيبتي، يا نهار اسود ومنيِّل. وكان الأكثر إيمانا يستنجدون بلسان نوبي فصيح: وو نور كمبو كقر.. يا الله يا قوي يا عزيز،.. ثم بدأ قرع الطبول، وبدأ كل بيت في إعداد البليلة، من اللوبياء والذرة الشامية، فهذه عادتنا عند كسوف الشمس وخسوف القمر، وبإزاء كل الظواهر الطبيعية التي لم نكن نعرف لها تفسيرا. ولكن غالبية الناس كانت في حالة انهيار كامل بعد ان أدركوا انهم لم يحسنوا الاستعداد ليوم القيامة، وها هي السماء تنشطر نصفين، وستهوي على الرؤوس بعد قليل. فاندفع الناس يطلبون الصفح والعفو من أمهاتهم وآبائهم وأقاربهم وجيرانهم. ومنهم من سدد دينا كان ينكره على مدى عشر سنوات او أكثر. وهرع بعض الحكماء الى جدي الشيخ حاج فرحان، وكان فقيها عالما وكاتبا وشاعرا ويقضي معظم ساعات يومه في التأمل والاطلاع، ووجدوه ثابت الجأش وهو يقرأ: “إذا السماء انشقت، وأذنت لربها وحقت، وإذا الأرض مدت، وألقت ما فيها وتخلت”، ولم يعجب ذلك بعض من كانوا يريدون من الشيخ ان يطمئنهم بأن الأمر لا يتعلق بقيام الساعة، وصاح أحدهم بما معناه: ما هذا يا شيخ؟ أتيناك طالبين الطمأنينة فتشق علينا السماء والأرض؟ ولكن حاج فرحان واصل تلاوة القرآن دون ان يبدو عليه هلع او وجل.
وفجأة لاحظ أحدهم ان السيف الذي كان يشق السماء صار يخبو، بل واختفت أجزاء منه. منهم المتشائم الذي قال ان الجزء الذي اختفى من السيف او الخيط الأبيض لابد ان سقط على الخرطوم لأن أهلها فاسدين، ويقال ان عندهم متاجر تبيع الخمر الملون المصنوع في بلاد الكفار، ومنهم من قال ان الجزء الذي اختفي من الخيط عبارة عن فجوة ستسقط منها النيازك والشهب فيهلك الجميع. ولكن الطمأنينة عادت الى القلوب بعد ان اختفى السيف الابيض تماما دون ان تأتي نفخة الصور. وظل أمر ذلك الخيط المرعب لغزا لأهل بلدتنا، وبعدها بسنوات كنت في الخرطوم ورأيت نفس ذلك الخيط في السماء، وبدأت أهمهم بسورتي الزلزلة والانشقاق، فصاح من كان معي متسائلا عن سر طنطنتي، فأشرت الى السماء بيد مرتجفة، فانفجر رفيقي السخيف ضاحكا وشرح لي ان الخيط ينجم عن نفث الدخان من الطائرات ”النفاثة” وقال لي كلاما طويلا عن تكثف البخار. وفي ذلك اليوم أحسست ولأول مرة بالانتماء الى القرن العشرين، ولو “بالتجنس”
ثم عشت جانبا مما حسبته من أهوال القيامة، وأنا طالب في المرحلة المتوسطة في بلدة “البرقيق”، وهي أيضا في قلب المنطقة النوبية. وكنا في الحصة الثالثة عندما سمعنا دويا يصم الآذان، ولأن تلك الحصة تعقب وجبة الفطور مباشرة، فقد حسبت الدوي ناجما عن تعاطي الفول، لأن الفول يسبب النعاس والهذيان، ثم لمحنا عبر النوافذ طائرا عملاقا يروح ويجيء فوق مبنى المدرسة، فانفتحت حناجرنا بالعويل، واندفعنا خارجين من غرف الدراسة عبر الأبواب والشبابيك، نجري في كل الاتجاهات، والطائر الوحشي يحوم من فوقنا، وحاول المدرسون تطويقنا وتهدئتنا ولكن لم يكن هناك مجال ل ”قُم للمعلم وفِّه التبجيلا”، فقد كانت مسألة حياة او موت ولا مجال للانضباط واحترام المعلم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون. وفجأة سكت هدير ذلك الطائر الخرافي، فتحركنا ببطء لتحديد الوجهة التي طار اليها. وعندها نجح المدرسون في تهدئتنا، وطلبوا منا الانتظام في طابور طويل وساروا بنا الى الفسحة الشمالية المتاخمة للمدرسة، وكان الطائر جاثما هناك بلا حراك، ولاحظنا ان بعض الاشخاص يقفون قريبا من الطائر دون ان يمسهم سوء، فاستجمعنا شجاعتنا واقتربنا منه قليلا. وسمعنا مدير المدرسة يقول كلاما عن الهليكوبتر، وعن فريق من المساحين جاءوا ليحددوا موقع المستشفى المقترح، وأنهم حلقوا مرارا فوق المدرسة بحثا عن موقع مناسب تهبط فيه الهليكوبتر. انقلب خوفنا سرورا، بل وتجرأ بعضنا على لمس “الهلاك-وبتر” بأيديهم. وفي نوبة سخاء قال قائد الهليكوبتر انه مستعد لحمل تلميذين والطيران بهما لبضع دقائق فوق المنطقة، فاندفعنا جميعا فارين صوب المدرسة.
ظلت سنة الهليكوبتر جزءا من التقويم في منطقتنا مثل مجاعة “سنة ستة” (1306ه- 1988م) و”توسين قم” أي سنة الفيضان، والمقصود بها عام 1946 الذي شهد فيضانا مدمرا.