المقالات

مُستَثمَر أصيل

في عالم يسوده التسارع المفرط والانشغال الدائم وطغيان المادة، يخرج مفهوم “الاستثمار” محصورًا في دلالات مالية وسياقات مادية بحتة، بينما في غيرها أصيل أحق. فقد وُلد الإنسان في العافية والوقت والبركة قبل أن تبدأ المادة بفرض سيطرتها وبسط نفوذها، ولكن لو سلمنا بأحقيتها، فلا بد أن نخرج عنها، ولو حينًا من الدهر، إلى معانٍ أخرى. وربما في نهاية المقال قد نتشارك أن ما خرجنا إليه هو الجوهر، بالانقطاع عن حدود المال والأعمال إلى الصحة والوقت واللحظة الجميلة التي تمنح الحياة معنى في ذاتها دون تدخلات. وقد نقول ختامًا إن أعظم صور الاستثمار تكمن في إدارة هذه العناصر الثلاثة بحكمة، إذ إنها رأس المال الحقيقي الذي يحدد جودة الحياة وهويتها.

يتعامل الكثير مع الصحة باعتبارها معطًى طبيعيًا لا يحتاج إلى إدارة أو تخطيط، في حين أنها الأكثر حساسية في محفظة الإنسان. فالرعاية والاهتمام، والأنماط الحياتية المتوازنة، والتغذية السليمة، والنشاط البدني، والعناية بالصحة النفسية استثمار، بل رأس هرمه وأصله. كما أن جودة الحياة تبدأ بالصحة، فإن ممارسة الرياضة ليست مجرد ترف جسدي، بل هي عملية ديناميكية تعزز الإنتاجية والقدرة الذهنية، ولعل أحد أهم أبعاد الاستثمار الصحي هو الاهتمام بالجانب النفسي والعاطفي، إذ إن التوازن النفسي يدعم المناعة النفسية ضد التوتر وضغوطات الحياة المتسارعة.

الوقت هو المورد الوحيد الذي لا يمكن استرداده بمجرد فقدانه، مما يجعله أحد أكثر الأصول أهمية في حياة الإنسان. وعليه، فإن الاستثمار في الوقت لا يعني بالضرورة أن يكون الإنسان منشغلًا طوال الوقت، بل يكمن في إدارة هذا المورد بذكاء لتحقيق التوازن بين الإنتاجية والراحة، والبقاء والاستدامة، والعيش بطريقة تضمن المحافظة وفق أفضل ممارسة ممكنة.

ولعل أحد أعظم استثمارات الوقت هو التعلم المستمر، إذ إن تخصيص ساعات يومية لاكتساب مهارات جديدة أو توسيع نطاق المعرفة يعزز قيمة الإنسان على المستويين المهني والشخصي في عصر الاقتصاد المعرفي، يتحول التعلم إلى أصول متراكمة تُضاعف من قيمة المرء في سوق الحياة.

الأيام مناسبات، ولكل مناسبة خصيصة تأتي مع هذا وتمتنع مع ذاك ولعل المناسبات الدينية والاجتماعية أحد تلك الأمثلة الظاهرة، وخاصة ما نعيشه الآن من فرصة لإعادة شحن الروح، والتواصل العميق مع الآخرين، وبناء جسر مع الصفاء الذي تصبغه هذه الساعات المباركة، فأنت أمام تواريخ نموذجية سانحة تستبين فيها عمقك، وتعيش فيها مع ذاتك، وتخلق قصة البذل بالطريقة التي تراها بين العبادة والعطاء.

لا تكمن السعادة في امتلاك الأشياء، بل في عيش اللحظات، إن استثمار اللحظات الجميلة والأيام المباركة يعني منحها القيمة التي تستحقها، بدلًا من السماح لها بالمرور العابر وسط زحام المادة وسلطتها الغائلة.

ختاماً… لا تكمن قيمة الحياة فيما نملك، بل في الطريقة التي نعيش بها، والإنسان الناجح هو من يدرك أن كل يوم هو فرصة استثمارية جديدة، وأن أجمل العوائد تأتي من حسن استغلال الصحة، والوقت، واللحظة التي ستصبح غدًا لحظة فائتة… فهل لديك وعي الاستثمار الأمثل؟

 

رياض بن عبدالله الحريري

كاتب وصانع محتوى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى