المقالات

رمضان ورحلته عبر الأزمان

ما إن عادت بي الذكريات إلى نهايات التسعينات الهجرية حتى تشكّل في ذهني شهر رمضان المبارك بكل تفاصيله الصغيرة، وسرعان ما استرجعت ذاكرة الماضي في ذلك المكان الذي احتضن طفولتي. ذلك المكان الذي يسمى (القرية)، والذي أعاد لي تاريخ أيام قد خلت بفرحها وحزنها، وهدوئها ومشقتها. ذلك المكان الذي اكتسب هويته من عادات ساكنيه قبل أن يكتسبها من تضاريسه القاسية، ذلك المكان الذي طُبع بذكرياته وأحداثه وجغرافيته على علاقات الناس وارتباطهم المجتمعي وانتمائهم إليه، ذلك المكان الذي ارتبط اقتصاده البسيط بالاكتفاء الذاتي، كالزراعة وتربية المواشي والحرف اليدوية.

وإذا ما رجعنا بالذاكرة إلى تلك الحقبة الزمنية التي تمتد لقرابة خمسين عامًا، فإن السحور في أول يوم من أيام رمضان يعدّ بهجة وسرورًا، حيث كانوا يسمونه “الغُرَّة”، إذ يستيقظ كل أهل البيت صغيرًا وكبيرًا، يجتمعون على السحور، حتى من لا يصوم منهم، فلا يترك أحدٌ من أهل البيت هذه الوجبة، ويقدّمون في أول سحور أفضل ما لديهم من طعام وشراب. وأما الإفطار، فإنه لا يتجاوز التمر والقهوة، التي تفوح رائحتها مع الغروب في كافة أنحاء المنازل، حيث يتم إعدادها من تحميص وطحن وطبخ داخل المنزل، مما يخلق أجواءً من المتعة والسعادة، يترافق معها عبق الشوربة والسمبوسة والمهلبية الصفراء بنكهة الموز. وتُعَدّ “الخبزة”، وهي أكلة شعبية تُصنع من العجين وتُقدَّم مع السمن والمرق، الطبق الرئيس، حيث تجد بعد صلاة العصر الدخان يتصاعد إلى عنان السماء من كل بيت أثناء خبزها على النار.

أما العمل، فإنه لا يختلف في رمضان عن غيره من سائر أيام العام، ففي الصباح الباكر يذهب الفلاحون إلى المزارع للعمل حتى وقت الظهيرة، ثم يستريحون إلى صلاة العصر، فيرجعون لإكمال الأعمال التي لم تُنجَز صباحًا، ثم يعودون إلى البيت قُبيل المغرب، فيجتمع بعضهم بجوار المساجد إلى قبيل أذان المغرب، يتداولون الأحاديث عن يومهم وما أنجزوه من أعمال، ثم يتوجهون بعدها إلى منازلهم لتناول طعام الإفطار مع أسرهم. أما الأطفال، فإنهم في لحظات الغروب يصعدون إلى أسطح المنازل الطينية أو يخرجون إلى جوار المنازل ليراقبوا قرص الشمس وهو يتوارى خلف الجبال، فإذا ما سمعوا صوت المؤذن عادوا ركضًا إلى البيوت وهم يرددون بصوت مرتفع: “أذن… أذن… أذن” فرحًا بالإفطار.

ومجمل القول، فإن رمضان الأمس ورمضان اليوم بينهما فروقات في العادات والطقوس الاجتماعية لا يمكن لمن عاصر ذلك الزمن أن يتخطاها. ففي الماضي، كان لشهر الصيام عبقٌ خاص، طغت عليه البساطة والروحانيات، حيث عاش الناس في زمن مختلف، وطقوس اتسمت فيها علاقتهم ببعضهم البعض بالودّ والترابط. فما إن يجنّ الليل ويخيم الصمت على ظلمته حتى تبدأ تلك الطقوس بالأمسيات الرمضانية التي يغلب عليها حكايات وقصص العابرين والمسافرين بعد عودتهم من أسفارهم، بالإضافة إلى الألعاب الشعبية التي كانت تعدّ أيقونة الترفيه في تلك الليالي الرمضانية، التي قد تمتد إلى قبيل منتصف الليل.

أما رمضان اليوم، فقد شهد تحولًا كبيرًا بفضل التقنيات الحديثة والعادات الجديدة، حيث أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءًا من حياة الناس في رمضان، وبات الكثير منهم يشاركون لحظات الإفطار والسحور بشكل مباشر عبر منصات التواصل المختلفة، ويتابعون برامج رمضان المتنوعة، سواء الدينية أو الترفيهية، عبر هواتفهم الذكية. كما تغيّرت أنماط الأطعمة في رمضان، حيث تعددت الخيارات بين الوجبات السريعة التي تباع في المطاعم والبوفيهات والمأكولات التي يتم تحضيرها في المنازل بطرق حديثة تحاكي وجبات المطاعم الحديثة.

همسة قلم:
في شهر الصوم، يشعر المسلم بأن هذا الضياء الروحاني ينير جوارحه ويسطع على تفاصيل الحياة، قديمها وحديثها.

عبدالرحمن العامري

تربوي - كاتب صحفي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى