المقالات

زنيرة الرومية: من ظلمات العبودية إلى نور الحرية – رد علمي على دعاوى إهانة الإسلام للمرأة

مقدمة

كثيرًا ما يتعرض الإسلام لهجوم من بعض الأصوات الغربية أو المتأثرة بها، متهمةً إياه بأنه “دين يهمّش المرأة” أو “ينتقص من كرامتها”، وهي دعاوى في الغالب إما مبنية على جهل بالنصوص وسياقاتها، أو على قراءة مجتزأة للتاريخ. غير أن العودة إلى النماذج النسائية الأولى في الإسلام، تكشف عن شيء مختلف تمامًا.
ومن بين هذه النماذج تبرز شخصية زنيرة الرومية، التي تجسد تحرر الإنسان – والمرأة خصوصًا – من أغلال العبودية، وامتلاكها الحق الكامل في العقيدة والكرامة، والقدرة على اتخاذ القرار، حتى لو خالفت به التيار الاجتماعي والسياسي والديني السائد في قريش آنذاك.

أولاً: زنيرة الرومية بين العبودية والكرامة

زنيرة لم تكن من قريش، بل كانت رومية الأصل، مملوكة لبني مخزوم، تعيش في بيئة لا تعترف لها بأي حق إنساني أو مكانة اجتماعية. كونها جارية وأجنبية، يجعلها نموذجًا مضاعفًا للاضطهاد: طبقي، وعرقي، ونسوي. ومع ذلك، لما جاء الإسلام برسالته، لم يسألها أحد عن نسبها أو طبقتها، بل دعاها النبي صلى الله عليه وسلم، كما دعا غيرها، إلى الإيمان بالله، فاستجابت دون تردد، واختارت الإسلام بوعي، مع أنها تعلم يقينًا أن ثمن هذا القرار سيكون العذاب وربما الموت.

فهل هذه صورة امرأة “مهمشة”، أم أنها امرأة واعية، تملك شجاعة القرار في أصعب اللحظات؟

ثانياً: تعذيبها وثباتها – درس في الحرية

حين علم أسيادها بإسلامها، استشاطوا غضبًا، ليس فقط لأنها خرجت عن دين قريش، ولكن لأنها مارست استقلالها في القرار، رغم كونها أَمَة. فمارسوا عليها أشد صنوف التعذيب. حتى فقدت بصرها. وزعم المشركون أن آلهتهم هي من أفقدتها بصرها عقوبةً لها. فردت عليهم بثقة وإيمان:

“ما فعل هذا بي إلا ربكم!”

فأراد الله أن يُظهر كرامة عباده الصادقين، فردّ الله عليها بصرها، كما في الروايات الصحيحة. هنا يظهر كيف أن الإسلام كرّم هذه المرأة وجعلها آيةً حية على كذب الشرك، وقوة التوحيد، وعلو مقام المرأة المؤمنة.

ثالثاً: العتق والإكرام – العدالة الاجتماعية في الإسلام

لما رأى أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما تتعرض له من تعذيب، سارع إلى شرائها وعتقها، كما فعل مع بلال وخباب وغيرهم من المستضعفين. وهذا جزء من سياسة الإسلام التحريرية، حيث لا يُرضي الإسلام أن تبقى امرأة مؤمنة تحت قيد العبودية، بل يسعى لتحريرها – لا فقط بالجسد – بل بالروح والعقيدة والكرامة.

وهنا يتجلى الفارق بين تصور الإسلام للمرأة، وتصور بيئات الجاهلية والعبودية القديمة:
• الإسلام لا يربط قيمة المرأة بنسبها أو جاهها،
• بل بإيمانها وثباتها واستقلالها الروحي.

رابعاً: الرد على دعاوى إهانة الإسلام للمرأة

إن من يزعم أن الإسلام أهان المرأة، عليه أن يواجه هذه الحقائق:
1. في مجتمع لا صوت فيه للمرأة، أعطاها الإسلام حق العقيدة، دون إذن من سيد أو أب أو عشيرة.
زنيرة لم تُستأذن، بل قررت بنفسها، وتحملت تبعات قرارها، وهذا في مجتمع يُمنع فيه حتى الأحرار من التفكير بحرية!
2. لم يَعُد الإسلامُ المرأة تابعًا هامشيًا، بل جعلها بطلة، تكتب اسمها في سجل الخالدين.
فما يزال اسم زنيرة يتردد على ألسنة المؤمنين، كرمز للتضحية والثبات.
3. حرر الإسلام المرأة لا فقط من عبودية السادة، بل من عبودية الأصنام، والعادات، والتقاليد، والتصورات المنقوصة.
الحرية الحقيقية ليست في كسر القيود الظاهرة فقط، بل في تحرر العقل والقلب، وهذا ما فعلته زنيرة.

خامساً: دروس للمرأة اليوم – من زنيرة إلى نساء العالم

من خلال هذه السيرة العظيمة، يمكن للمرأة المسلمة اليوم أن تتعلم:
• أن الكرامة لا تُوهب، بل تُنتزع بالإيمان والوعي.
• أن المرأة تملك الحق الكامل في الإيمان والاختيار، دون وصاية من أحد.
• أن قوة الشخصية لا تحتاج إلى منصب، بل إلى صدق مع الله وثبات على المبدأ.
• أن الإسلام في جوهره دين تحرير، لا تقييد.
• أن النموذج النسائي في الإسلام مبكرٌ، عظيم، مستقل، وفاعل.

خاتمة

ليست زنيرة مجرد امرأة عابرة في سجل التاريخ، بل هي شعلة في مسار الحرية الإنسانية، ونموذج يُكذّب كل الافتراءات على الإسلام، ويُثبت أن هذا الدين منذ لحظاته الأولى جاء ليحرر المرأة من كل أشكال القهر.

فلْنُعد قراءة هذه النماذج لا بوصفها حكايات دينية، بل بوصفها دروسًا في بناء الذات الحرة، المؤمنة، الواعية، في زمن تكثر فيه التحديات وتتشوش فيه المفاهيم.

د. فايد محمد سعيد

عضو المجلس الأوروبي للقيادات المسلمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى