المقالات

من يقرر ماذا نقرأ؟ السلطة الخفية وراء المحتوى والخوارزميات

في الماضي، كان الإعلام يمارس طقسه الأصيل.. صحفيّ يبحث عن الحقيقة، قارئ ينتظر المعلومة، ومؤسسات تسعى لإرضاء جمهورها. العلاقة كانت مباشرة، تقوم على التأثير والاستجابة. أما اليوم، فقد تغيّر كل شيء. لم تعد الكلمات تُكتَب من أجل العيون التي تقرأ، بل لأجل خوارزمية لا ترى ولا تشعر، لكنها وحدها تقرر ما إذا كان هذا النص سيُقرأ أم لا.

لقد انقلبت الأدوار. أصبح صانع المحتوى يعرف أن أول من سيُعرض عليه إنتاجه ليس القارئ أو المشاهد، بل خوارزمية ضخمة تحلل، تقيس، وتقترح. هذه الخوارزمية ليست جمهوراً بالمعنى التقليدي، لكنها تمتلك السلطة الكاملة لتقرر: من سيشاهد؟ ومن سيبقى في الظل؟ لم يعد الإعلام يُخاطب الإنسان مباشرة، بل أصبح يهمس في أذن الخوارزمية، يرشوها بالمال لعلها تسمح له بالوصول إلى البشر.

هذه التحوّلات لا تعني فقط تغييرًا في الوسائل، بل في الجوهر. لم يعد المحتوى يبحث عن القيمة، بل عن القابلية للانتشار. لم يعد هدفه التثقيف أو الإخبار، بل الصعود في سلّم التوصيات، وتحقيق الأرقام التي تُرضي الآلة. بتنا نعيش في زمنٍ لم يعد فيه الإعلام حرًا تمامًا، بل محكومًا بمعادلات لا نراها، لكنها توجه ذوقنا وتعيد تشكيل وعينا.

الخطر هنا لا يكمن فقط في سلطة الخوارزمية، بل في تغيّر طبيعة الإعلام نفسه. المحتوى اليوم قد يصبح هشًا، سطحيًا، مكرّرًا. نُغذّى بما نحب أن نسمع، لا بما نحتاج أن نعرف. نُعزل داخل فقاعات رقمية تُعيد لنا أفكارنا نفسها بصيغ مختلفة، وتمنعنا من مواجهة الآخر، المختلف، أو حتى الغريب والغير مألوف.

رغم ذلك، لا يمكن تجاهل أن هذا العصر يفتح آفاقًا جديدة. لكنه أيضًا يفرض علينا سؤالًا وجوديًا: من هو الجمهور الحقيقي الآن؟ هل هو الإنسان الذي يتلقى، أم الخوارزمية التي تُقرر؟ وهل ما نستهلكه من محتوى هو انعكاس لحاجاتنا فعلاً، أم لما تريده الآلة أن نراه؟

في النهاية، نحن لا نعيش فقط في عصر الإعلام الرقمي، بل في عصر الإعلام المُوجّه للآلة. وربما آن الأوان أن نعيد التفكير في علاقتنا بهذه الآلة، وألّا ننسى أن الإعلام، في جوهره، لا يجب أن يُفقد إنسانيته، حتى في عالم تُديره الخوارزميات.

الجوهرة صالح القزلان

باحثة ماجستير

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى