سبحان الله! هناك من لا يحب الهداية لنفسه ويستكثرها على غيره، ويودّ لو أن يكون كل الناس أشقياء، لا يذوقون طعم السعادة. فهو لا يعيش إلا في نفايات الحياة، ينمو فيها ويترعرع، ويتفنن في إزعاج الآخرين، ولا يهدأ له بال إلا إذا رأى الحسرات على وجوه الناس. ويسعد أيّما سرور إذا رأى الويلات، خاصة إذا كانت يده لها دور فيها. وعندما يصحو من نومه التعيس، يجري إلى الجوال ليرى كم مصيبة يستطيع أن “يمزمز” عليها بمزاج، وإذا لم يجد ما يسره، لطم الخد وشقّ الجيب.
يقول الحكواتي: في وقت من الأوقات، وفي مدينة ما، كانت هناك حارة شعبية، وفي أحد أزقتها يوجد بيتان متقابلان، أحدهما يسكنه الولد الطيب (M)، والآخر يسكنه (الواد) الشقي (Z). هذا الزقاق أسموه زقاق الطيبين، نظرًا لأن معظم سكانه من الناس المحبين لبعضهم، المتضامنين في السراء والضراء. ولكن شذّ عنهم هذا (الواد) الشقي.
المهم، كانت مشكلة (Z) في ولد الجيران (M)، ذلك المتفوق في خُلقه وتعامله منذ الصغر. المعلمون دائمًا يشيدون به، فهو ليس طالبًا مجتهدًا فقط، بل هو ذكي ولمّاح، ولا يرضى بجيد، فعلامة “ممتاز” هي صديقته المفضلة. بينما (Z) لا يملك تلك القدرات، ولا تعجبه الفتات التي هي على قدر إمكانياته وما يستحقه. وأثار ذلك فيه الحسد، وإن كانت تلك الخصلة معشعشة في مخيّخه أصلاً، فلا جديد. فأصبح همّه وشغله الشاغل كيف يتفوق على (M)، وإذا لم يستطع، فلعله يخرب عليه.
لاحظ (Z) أن حساب (M) في وسائل التواصل ينمو سريعًا ويتبعه الملايين، بينما الإقبال على حسابه ضعيف جدًا، رغم ما يضعه من محفزات لتنميته، ولم يحصد إلا بضعة آلاف، وبشقّ الأنفس. ولكن لا جدوى، فزادت نقمته. (M) بالإضافة إلى تفوقه في الدراسة والميديا، فهو بارّ بعائلته، يجدّ ويشقى حتى يؤمّن لهم العيش الكريم، ويطرق كافة السبل ويذلل العقبات أمام إخوته ليكونوا متفوقين ويعتمدوا على أنفسهم. بل ويتفقد أحوال الأقارب والجيران، ويساعد ولو بكلمة طيبة، والحارة كلها تشيد به.
أما (Z)، فكلما رأى ابن الجيران يتفوق في مجال، حاول أن يفعل مثله، لكنه يفشل، رغم أن ظروفه المالية وإمكاناته أفضل. وأول ما يقوم (Z) من النوم، وقبل أن يغسل وجهه الكئيب، يبصبص من فتحة في جانب النافذة على بيت الجيران ليتجسس على (M)، لعلّه يجده في إشكال أو موقف ضعيف فيشفي غليله.
وفي أحد الأيام، رأى (M) مع رجل مسن يبدو عليه الفقر، فناول (M) المسكين بيده شيئًا يبدو أنه بعض المال، ثم ركب سيارته وغادر. خرج (Z) يجري خلف ذلك الرجل يصيح: “تعال يا مسكين، كم أعطاك (M)؟”
ردّ المسكين: “ما قصر، جزاه الله خيرًا، أعطاني عشرين ريالاً.”
فأعطاه (Z) خمسين ريالًا وقال له: “بكرة تعال ورجع العشرين له، وبعطيك كمان خمسين.”
نظر إليه المسكين وصمت، ثم قال: “طيب.” ففرح (Z).
وفي الصباح، وجد (Z) ظرفًا ملقى من النافذة، ففتحه فوجد الخمسين ريالًا، ومعها ورقة كتب عليها:
“عشرون أو أقل بعزة نفس وطيبة خاطر، أفضل من أي مبلغ آخر بكِبر واستعلاء. لا أريد لك مالاً. التوقيع: مسكين.”
غضب (Z) وكأن النار اشتعلت في صدره. واستمر في مراقبة (M)، فلاحظ أنه عندما يمر من الزقاق، يسلم عليه شباب الحارة بحرارة ويقولون: “تفضل تقهّوَ عندنا، مشتاقين لسواليفك.” بينما هو، لا أحد ينظر إليه بعين، فزاد حسده.
تمر الأيام والسنوات، و(M) يستمر في نجاحاته، حتى أصبح في مركز عالٍ ومهم، واضطر للانتقال إلى سكن قريب من العمل. ولكنه اعتاد الذهاب إلى مقهى ليس بعيدًا عن الحارة، واستمر في ارتياده بين حين وآخر مع أصدقاء الأمس، حتى بعد اعتلائه ذلك المنصب الهام والحساس.
وكان (Z) يأتي مع بعض أصدقائه إلى نفس المقهى، ليتندروا على (M). كانوا يحتسون القهوة والطلبات المتعددة على حساب (Z)، ليُرضوا غروره ونفسه المريضة. واستمرت السنوات في جريانها، و(Z) تظهر عليه معالم الكِبر سريعًا، وهزل جسده، وأصبح يأتي مستندًا على أحدهم. و(M) يحاول أن يصدّ بصره عنه حتى لا يظن أنه يشمت به.
ولاحظ (M) بعد فترة أن (Z) لم يعد يحضر كما في السابق، وقلّ أصدقاؤه من حوله، ثم اختفى تمامًا. فقرر أن يذهب إلى الحارة ليسأل عنه، فالجوار يبقى جِوارًا، مهما كان.
وصل (M) إلى الحارة، فوجد إضاءة غير عادية، وناسًا كُثُرًا في باحة المسجد. علم أنه مجلس عزاء، فقرر أن يُعزي، ثم يذهب إلى بيت (Z). وعندما تقدم للعزاء، وجد إخوة (Z) في صف العزاء، فقال: “عظم الله أجركم، من المتوفى؟”
ردّوا: “إنه (Z). لقد عانى كثيرًا، وقبل وفاته أوصانا أن نأتي إليك ونطلب منك أن تبيحه، وهذا أنت قد أتيت.”
ردّ ودمعة تترقرق في عينه: “ما شفت منه إلا الطيب، رحمه الله وجعل الجنة مثواه.”
مع الأسف، كم من (Z) نلاقي في هذه الحياة! ولكن صبرٌ جميل، فالأمل يظلّ واعدًا طالما هناك أمثال (M) يعيشون بيننا.
جزاك الله خيراً معالي الفريق أسعد عبدالكريم .
معاليكم مدرسة بل جامعة في الطيب والخلق الحميدة فأنتم مثال حي للرجل الطيب الكريم .. لمست ذلك عن قرب عندما كنت أعمل تحت إدارتكم النيرة .