قراءة إيمانية تأملية في قوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ [القدر: 4]
المقدمة
من أعظم مقاصد القرآن الكريم ترسيخ التوحيد في القلوب، وتثبيت عقيدة أن الله هو المدبر لكل شيء، لا يقع في الوجود شيء إلا بإرادته ومشيئته.
فالقرآن لا يكتفي بتقرير هذا الأصل، بل يكرره في مواضع متعددة، بأساليب متنوعة، ليغرس في المؤمن أن: “لا ضار ولا نافع، لا هادٍ ولا مضل، لا موت ولا حياة، إلا بإذن الله.”
وقد تأتي عبارة “بِإِذْنِ الله” في سياقات مألوفة، لكنها تحمل في طياتها بناءً عقديًا دقيقًا، يعيد تشكيل نظرة الإنسان إلى الحياة والكون، فيحرره من التعلق بالأسباب، ويربطه برب الأرباب.
في هذه المقالة، تأملات إيمانية في قوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾، وانطلاقًا منها نقرأ دلالات هذه العبارة العظيمة كما وردت في مواضع أخرى من القرآن الكريم، تأكيدًا على أن المشيئة الإلهية هي أصل كل حركة وسكون في هذا الكون.
⸻
بِإِذْنِهِ… لا بِزُلفاهم
ليلة القدر، تلك الليلة المنيفة التي قال الله عنها: ﴿خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، ليست عظيمة فقط بنزول الملائكة فيها، ولا بروحانية أنوارها، بل بعظمة من أذن بذلك.
قال تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾، وكأنما يلفت أنظارنا إلى الأصل، لا إلى الوسائط، إلى الآمر لا إلى المأمور، إلى صاحب القدرة لا إلى أدوات التنفيذ.
الملائكة، على عظيم قدرهم، لا يتحركون إلا بإذن الله، وجبريل، أمين الوحي، لا ينزل إلا بأمر الله، فما بالنا نُعظم الأسباب ونغفل عن مسببها؟
إنه درس رقيق عميق، يربّي النفوس على ألا تنشغل بالمظاهر الربانية – مهما سمت – عن الفاعل الحقيقي، المدبر الواحد الأحد.
ألا تتعلق بالنزول بل بمن أذن بالنزول، ولا تفتن بالنور عن خالق النور، ولا تستغرق في ألف شهر عن مالك الزمان والمكان، فهو سبحانه:
المعطي إذا أعطى، والمانع إذا منع، الحافظ إذا لطف، الخافض إذا شاء، الرافع إذا أراد، المعز إذا كتب، المذل إذا حكم، هو أضحك وأبكى، وأمات وأحيا.
⸻
بين الألم والأمل: “بإذن الله” مانع من اليأس
من أعظم ما يُعين المؤمن على الثبات في وجه الابتلاءات والمحن: إدراكه أن كل ما يجري في الكون، من نصر أو هزيمة، من فقر أو غنى، من فرح أو حزن، إنما هو بإذن الله.
ومن أعظم ميادين الابتلاء في عصرنا ما يجري على أرض فلسطين، من مشاهد تقشعر لها الأبدان، وتتفطر لها القلوب، من قصف وحصار وتهجير ومجازر، حتى يكاد الأمل أن ينطفئ من القلوب، ويُسمع السؤال الحائر: أين وعد الله؟ أين نصره الموعود؟
لكن المتأمل في قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ يدرك أن النصر لا يأتي إلا حين يأذن الله، وأن الصبر على البلاء ليس سكونًا سلبيًا، بل تعبد للمشيئة الإلهية.
⸻
“بإذن الله” في القرآن: مواضع ودلالات
ترد عبارة “بِإِذْنِ الله” في مواطن متعددة من القرآن، لتؤكد أن المشيئة الإلهية هي الحاكمة في كل شأن:
1. السحر لا يضر إلا بإذن الله
﴿وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 102]
2. النصر لا يتحقق إلا بإذن الله
﴿كَمْ مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 249]
3. المعجزات لا تجري إلا بإذن الله
﴿… فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ … وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 49]
4. الموت لا يقع إلا بإذن الله
﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 145]
5. الإيمان لا يُخلق إلا بإذن الله
﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [يونس: 100]
6. الدعوة لا تُقبل ولا تُثمر إلا بإذن الله
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [النساء: 64]
7. المصائب والخيرات لا تكون إلا بإذن الله
﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن: 11]
⸻
الخاتمة
ما أعظم أن يتربى القلب على أن كل شيء بإذن الله.
فإذا علمت أن الضر والنفع بيده، سكن قلبك، وإذا علمت أن الموت والحياة من أمره، زهدت في الدنيا، وإذا استقر في نفسك أن الإيمان والنصر والرزق والهداية لا تكون إلا بتوفيقه، ذقت لذة العبودية، ونعمة التسليم، وعظمة التوكل.
فسبحان من لا يتحرك متحرك، ولا يسكن ساكن، ولا تثمر شجرة، ولا تموت نفس، ولا يؤمن عبد، إلا إذا أذن هو، سبحانه وتعالى.