إذا كنت تعتقد أن الرفاهية كافية للعيش السعيد، فأنت واهم! نعم، هذا وهم مؤكد، لأن الرفاهية في جوهرها مكون مادي على هيئة أموال ومنازل وسيارات وملابس ومجوهرات وطعام وملاهِ وغيرها! بيد أن الرفاهية بهذا المكون المادي فقط لا تصمد أمام أعداء على شاكلة: الملل، والضيق، والقلق، والحزن، والتوتر، وغياب معاني التعب، والكفاح، والرحمة، والإحساس بالمسؤولية، والإنجاز، والطموح!
يقول الطبيب النفسي النمساوي د. فيكتور إميل فرانكل، الذي عاش في معتقلات النازية ووصل إلى مشارف الموت، إن كثيرًا من المعتقلين في أوشفيتز (وهو المعتقل النازي الأكبر) لم ينجحوا في مقاومة الموت إلا بإيجاد معانٍ لبقائهم أحياء! هذه المعاني – وفقًا لد. فرانكل – تراوحت بين الرغبة في العيش من أجل الأسرة، أو إنجاز مشاريعهم الدراسية، أو حتى قضاء وقت سعيد مستقبلًا مع أصدقائهم في مقاهي المدينة! المعنى هو كل شيء بالنسبة للإنسان الذي لا يملك مكتسبات مادية! المعنى المختبئ داخل الأنفس سيعين الإنسان على تحمل أقسى درجات الشقاء ليعيش سعيدًا ويتحقق له المراد، أو يموت كريمًا وهو يقدم روحه لأجل من يستحق الفداء!
المعادلة واضحة إذًا! يمكن للإنسان أن يكتفي بالمعاني، وقد لا يصمد بكل ما في الدنيا من ملاهٍ ورفاهية! ولأن السعادة لا ترتبط بالماديات حصريًا، بل بما ينتج عن تلك الماديات، فالأمر محسوم سلفًا لصالح المعاني قبل الماديات! لا يمكن لسيارة فارهة أو منزل جميل أو مجوهرات ثمينة أن تحقق السعادة لكائن من كان إلا حينما تتحول تلك الماديات إلى حالة شعورية روحانية لذيذة داخل أرواحنا! بدون هذا، ستصبح كل هذه الأعيان المادية مجرد محفزات لا قيمة لها في أعماق أنفسنا وكينوناتنا!
الرفاهية لوحدها، أي بدون المعاني الجميلة التي تنتج عنها، أشبه بمن يطلب منك أن تضحك دون أن يخبرك بنكته! أشبه بمن يأمرك بالسعادة دون أن يحقق لك أمنية منتظرة! الرفاهية لوحدها محاولة تعيسة لجعل الذات الإنسانية ذاتًا مزيفة ومادية مفرطة في المحسوسات. ولذلك، لا يمكن بحال من الأحوال لمن يتأمل أن يستغرب من تعاسة بعض المرفهين، بالرغم مما يحيط بهم من مظاهر الغنى والسعة والراحة! لا غرابة مطلقًا، فالوقود الحقيقي، وهو المعاني، لم يتولد بعد من تلك الرفاهية المادية، وستبقى مجرد محاولات بائسة لاستجلاب السعادة حتى تأذن لها الأرواح والأنفس!
ذكرت في أكثر من موضع أن الشاعر المصري الكبير محمود سامي البارودي نُفي إلى سرنديب (سريلانكا) لأكثر من ١٧ سنة، وجد فيها من الغربة والفقد والحنين ما لم يجده شاعر! بيد أنه اقتات وعاش على معاني الوطنية، والأسرة، والخلان، فاستطاع أن يصمد في وجه بُعد المكان، وغربة الثقافة، واختلاف اللغة، ووَطْأة المرض! وحينما أذن الله بعودته لمصر، لخّص كل هذه المعاني ببيته الشهير وصدح:
أبابلُ رأي العين أم هذه مصرُ
فإني أرى فيها عيونًا هي السحرُ
دعونا نتمنى العيش بالمعاني أكثر من العيش بالرفاهية! دعونا نتذكر أن الثالوث التراجيدي للحياة، وهو: الألم، والشعور بعقدة الذنب، والموت، لم يستسلم سوى لأصحاب المعاني، لا لأصحاب الرفاهية! دعونا نصلي لحياة مثالية تجمع الرفاهية بالمعنى، وحينها سنجمع الحُسْنَيين وننال المنزلتين!