عام

قراءة انطباعية لمجموعة “مذكراتُ آخرِ فئرانِ الأرض” للقاص موسى الثنيان

في السَّردِ الأدبيّ، تأخذُ الكائناتُ الصَّغيرةُ أبعادًا رمزيَّةً تتجاوزُ وصفَها الواقعيَّ، من حيثُ الحجمِ والشَّكلِ، بل يمنحُها معانيَ ورموزًا تتجاوزُ وجودَها المادِّيَّ، لتصبحَ مرايا تعكسُ التَّعقيداتِ البشريَّةَ من ضعفٍ ودهاءٍ وصراعٍ أزليٍّ من أجلِ البقاءِ. والفأرُ، هذا الكائنُ الهامشيُّ الذي ارتبطَ في المخيالِ الجمعيِّ بالخوفِ والمرضِ، لم يكنْ يومًا مجرَّدَ تفصيلٍ علميٍّ أحيائيٍّ عابرٍ، يُظهرُ بنيتَها، ووظائفَها، ونموَّها، وأصلَها، وتطوُّرَها، وتوزيعَها، بل تحوَّلَ إلى استعارةٍ أدبيَّةٍ تعكسُ الهشاشةَ البشريَّةَ والتمرُّدَ على المصيرِ، وتُعيدُ تشكيلَ صورةِ المهمَّشِ في عوالمِ الأدبِ المختلفةِ.

في الأدبِ الكلاسيكيِّ، جسَّدَ الفأرُ الحلمَ المهدَّدَ بالانهيارِ، الكائنَ الذي يسعى لامتلاكِ ولو أقلِّ القليلِ في عالمٍ لا يمنحُ الضُّعفاءَ سوى الفُتاتِ. وفي أدبِ الأطفالِ، تحوَّلَ إلى شخصيَّةٍ مغامرةٍ وذكيَّةٍ، تتجاوزُ صورتَها النَّمطيَّةَ ككائنٍ منبوذٍ. أمَّا في التُّراثِ الشَّرقيِّ، فالفأرُ يكشفُ بفطنةٍ عن التَّفاوتِ الطَّبقيِّ، ليصبحَ أداةً نقديَّةً تسلِّطُ الضَّوءَ على العمليَّاتِ والحركاتِ والتَّأثيراتِ المتبادلةِ التي تحدِّدُ كيفيَّةَ تطوُّرِ السُّلطةِ والعلاقاتِ الاجتماعيَّةِ داخلَ المجتمعِ. وفي الأدبِ الحديثِ، يأخذُ الفأرُ بعدًا فلسفيًّا أعمقَ، متجسِّدًا كرمزٍ للصِّراعِ بينَ الفردِ والمنظومةِ، وكوسيلةٍ لتأمُّلِ الفنِّ بوصفِه خلاصًا من العدمِ.

هذهِ الدَّلالاتُ المتشابكةُ تجعلُ من الفأرِ أكثرَ من مجرَّدِ حيوانٍ في النَّصِّ، بل شاهدًا على التَّحوُّلاتِ الثَّقافيَّةِ والفكريَّةِ، ومرآةً للأسئلةِ الكبرى حولَ الوجودِ والهويَّةِ والسُّلطةِ.

وعندَ النَّظرِ إلى المجموعةِ القصصيَّةِ “مذكراتُ آخرِ فئرانِ الأرض” للكاتبِ المبدعِ موسى الثّنيانِ، نجدُ عنوانًا لا يُثيرُ الفضولَ فحسبُ، بل يفتحُ بوابةً تأويليَّةً واسعةً. فهو عنوانٌ يحملُ بُعدًا اجتماعيًّا عميقًا، حيثُ ترمزُ “الفئرانُ” إلى الفئاتِ المهمَّشةِ والمستضعفةِ، بينما تُضيفُ عبارةُ “آخرُ فئرانِ الأرضِ” إحساسًا بالخاتمةِ أو التَّحوُّلاتِ الجذريَّةِ، ممّا يمنحُ العنوانَ بُعدًا تأمليًّا حولَ النِّهايةِ أو العبورِ إلى مرحلةٍ جديدةٍ. أمَّا استخدامُ كلمةِ “مذكّراتٍ”، فيُضفي طابعًا إنسانيًّا حميميًّا، كأنَّ هذهِ الحكاياتِ ليستْ مجرَّدَ قصصٍ، بل شهاداتٌ على زمنٍ يتآكلُ.

قصصُ المجموعةِ، في جوهرِها، تتناولُ حياةَ البشرِ من خلالِ رمزيَّةِ الفئرانِ، مُسلِّطةً الضَّوءَ على التَّوتُّراتِ العميقةِ بينَ الخيرِ والشَّرِّ، الإيثارِ والأنانيَّةِ، والانتماءِ والتَّهميشِ، بأسلوبٍ رمزيٍّ يُعرِّي الصِّراعَ الإنسانيَّ في أكثرِ صورِهِ تجرُّدًا.

هذا ما نستخلصُهُ بشكلٍ عامٍّ من المجموعةِ، لكنَّنا سنعبرُ بشكلٍ خاصٍّ إلى قراءةِ القصصِ السِّتِّ الأولى منها، متتبّعينَ رمزيَّةَ الفأرِ وموقعَهُ داخلَ البنيةِ السَّرديَّةِ، لنرى كيفَ تتجلّى هذهِ الثِّيماتُ بخصوصيَّتِها داخلَ كلِّ قصَّةٍ، وكيفَ تنعكسُ دلالاتُ التَّهميشِ والصِّراعِ الإنسانيِّ وفقَ هذا الاستخلاصِ. سنحاولُ الكشفَ عن عُمقِ التَّوظيفِ الرَّمزيِّ، وتحليلَ البنيةِ الحكائيَّةِ التي تجعلُ من الفأرِ أكثرَ من مجرَّدِ عنصرٍ روائيٍّ، بل أداةً لاستكشافِ تناقضاتِ النَّفسِ البشريَّةِ، وأحوالِ المجتمعِ، وحتميَّةِ المصيرِ.

القِصَّةُ الأُولى: (جنابُ المحترمِ ماغاوا)

تحليلُ رمزيَّةِ الفأرِ فيها:

1. الفأرُ (الجُرذُ، ماغاوا) في القِصَّةِ يُستخدمُ كرمزٍ للتَّناقضاتِ النَّفسيَّةِ للجُنديِّ، حيثُ يقرصُ بزَّتَهُ العسكريَّةَ، مُظهرًا ازدراءً لما كانَ يُعتبرُ رمزًا للقُوَّةِ والبُطولةِ، ممّا يكشفُ عن ضعفِهِ وهشاشتِهِ بعدَ التَّقاعدِ.
2. الفأرُ في القِصَّةِ يُرمزُ إلى التَّهميشِ الذي يُعاني منهُ الجُنديُّ بعدَ تقاعدِهِ، حيثُ كانَ يُعتبرُ بطلًا في الحربِ لكنَّهُ أصبحَ الآنَ شخصًا هزيلًا، مُتمسِّكًا بماضيهِ. كما يُرمزُ الفأرُ إلى صراعِ الجُنديِّ الدَّاخليِّ بينَ ماضيهِ العسكريِّ وأثرِهِ على الأبرياءِ، ممّا يعكسُ تناقضَهُ الدَّاخليَّ وتورُّطَهُ الأخلاقيَّ.
3. الجُرذُ “ماغاوا” في القِصَّةِ يُستخدمُ كرمزٍ عميقٍ لاستكشافِ التورُّطِ الأخلاقيِّ للجُنديِّ، حيثُ يُظهرُ الفأرُ ككائنٍ دمَّرَ الحياةَ عبرَ الألغامِ التي زرعَها، وفي الوقتِ نفسهِ، يُمثِّلُ الأملَ والحياةَ، لأنَّهُ فكَّكَ الألغامَ وأنقذَ الأرواحَ. هذا التَّناقضُ يجعلُ الجُنديَّ يشعرُ بالحقارةِ حيالَ ما ارتكبَهُ من أفعالٍ حربيَّةٍ.
4. البنيةُ الحكائيَّةُ تُظهرُ تحوُّلَ الجُنديِّ من بطلٍ مُحاربٍ إلى شخصٍ مهزومٍ نفسيًّا. الفأرُ في حُلمِهِ يُرمزُ إلى النَّدمِ والضَّياعِ، ويكشفُ عن هشاشتِهِ النَّفسيَّةِ. مع مرورِ الوقتِ، يُواجهُ الجُنديُّ تساؤلاتٍ عن مصيرِهِ، هل سيُذكرُ كشَهيدٍ أم كقاتلٍ مُجرمٍ؟ التَّداخلُ بينَ الواقعِ والخيالِ يُعمِّقُ شعورَ الجُنديِّ بعدمِ الاستقرارِ العقليِّ والنَّفسيِّ، حيثُ يُصبحُ الجُرذُ رمزًا للنَّدمِ الذي يُطارِدُهُ.
5. في النِّهايةِ، يُظهرُ الفأرُ كعنصرٍ حتميٍّ في حياةِ الجُنديِّ، حيثُ يعودُ ليُلاحقَهُ كلَّما حاولَ الهروبَ من ماضيهِ. الجُرذُ الذي يلتهمُ بزَّتَهُ العسكريَّةَ يُرمزُ إلى التورُّطِ في ماضيهِ الحربيِّ. ومعَ شعورِهِ بأنَّ الفأرَ سيأكلُهُ أيضًا، يُصبحُ رمزًا لحتميَّةِ المصيرِ وتأثيرِ أفعالِهِ الدَّائمِ في الحياةِ والموتِ.
وعليهِ نَخلُصُ في هذهِ القِصَّةِ إلى أنَّ الفأرَ يُعتبرُ أكثرَ من مجرَّدِ كائنٍ صغيرٍ، بل هو رمزٌ عميقٌ يحفُرُ في داخلِ الجُنديِّ ويكشفُ عن جوانبَ مُظلمةٍ في نفسِهِ. من خلالِ حُلمِهِ معَ الجُرذِ “ماغاوا”، تُعرَضُ تناقضاتُ الحربِ وتأثيرُها على الشَّخصيَّاتِ، ويُتساءلُ عن معنى البُطولةِ والنَّدمِ.

مِن إيجابيَّاتِ القِصَّةِ:

1. عُمقُ الفكرةِ: تعكسُ القِصَّةُ صراعًا داخليًّا وجوديًّا بأسلوبٍ رمزيٍّ، حيثُ يُمثِّلُ الجُرذُ “ماغاوا” صوتَ الضَّميرِ الإنسانيِّ الذي يُحاسِبُ الجُنديَّ على أفعالِهِ. مثال : «أيُّها الجُرذُ “ماغاوا”، أَتُراكَ تشعُرُ بالإنسانيَّةِ أكثرَ منِّي؟»
2. وصفٌ دقيقٌ ومُؤثِّرٌ: الوصفُ الحيُّ للأحداثِ والمشاعرِ يجعلُ القارئَ يعيشُ الموقفَ بتفاصيلِهِ. مثال: «تراجَعَ للخَلفِ وألقى بجسدِهِ النَّحيلِ الذي باتَ يُشبهُ عودَ القصبِ وعيناهُ تدورانِ في المكانِ.»

3. الرَّمزيَّةُ القويَّةُ: الجُرذُ يُمثِّلُ كلَّ ما يندمُ عليهِ الجُنديُّ، ويخلُقُ تضادًّا بينَ عملِهِ المُدمِّرِ وحياةِ الجُرذِ التي أنقذتِ البَشرَ.
4. التَّصاعُدُ الدِّراميُّ: الانتقالُ من حالةِ الفخرِ بالتَّكريمِ، إلى الانهيارِ النَّفسيِّ والهَوسِ بالجُرذِ، يعكسُ بُعدًا دِراميًّا مُثيرًا.

القِصَّةُ الثَّانِيةُ: «لِلفئرانِ ضَرورتُها أحيانًا»

في هذهِ القِصَّةِ، يظهَرُ الفأرُ كرمزٍ مُركَّبٍ يتجاوزُ كونهُ مجرَّدَ كائنٍ يُسبِّبُ الأذى في المَتجرِ. من خلالِ تتبُّعِ الرَّمزيَّةِ في النَّصِّ، يتَّضحُ أنَّ الفأرَ يُصبحُ أداةً للكشفِ عن التَّوتُّراتِ النَّفسيَّةِ والاجتماعيَّةِ في حياةِ الشَّخصيَّاتِ، ويُمثِّلُ الصِّراعَ الدَّاخليَّ والمصيرَ الذي لا يُمكنُ الهروبُ منهُ. نستعرض هذا من خلالِ النقاط التالية:

1. الفأرُ كرمزٍ للتَّهميشِ والضَّعفِ:
الفأرُ في القِصَّةِ يَظهَرُ ككائنٍ صغيرٍ ومُتَسَلِّلٍ، يَدخلُ إلى المَتجرِ ويُسبِّبُ الفوضى دونَ أن يَشعُرَ بهِ صاحبُ المَتجرِ حتَّى يَصلَ الوَضعُ إلى ذروتِهِ. يتوازى وجودُ الفأرِ مع حالةِ التَّهميشِ التي يُعاني منها عادلٌ، الذي يعيشُ في ضائقةٍ ماليَّةٍ شديدةٍ. مثلَ الفأرِ الذي لا يُلاحَظُ، إلَّا عندما يُسبِّبُ الأذى، يعيشُ عادلٌ في الظِّلِّ، ويُواجهُ ضغوطًا اجتماعيَّةً ونفسيَّةً بسببِ عدمِ قدرتِهِ على الوفاءِ بالتزاماتهِ الماليَّةِ. الفأرُ يُصبحُ تجسيدًا لهذا الوُجودِ الخَفيِّ الذي يُزعزِعُ الاستقرارَ ولكن لا يتمُّ التَّعاطي معهُ إلَّا بعدَ حُدوثِ كارثةٍ.

2. الفأرُ كمُؤشِّرٍ على الصِّراعِ الدَّاخليِّ:

يَحمِلُ الفأرُ دلالةً مُزدوجةً، إذ يُظهِرُ التَّوتُّرَ بينَ الفعلِ والتَّفاعلِ البشريِّ في المَتجرِ. الحاجُّ نادرٌ الذي يُعاني من قلقٍ دائمٍ بسببِ الفئرانِ يشعرُ بالتهديدِ المُستمرِّ، وهو ما يعكِسُ صِراعَهُ الدَّاخليَّ المُستمرَّ في حياتِهِ الشَّخصيَّةِ والمِهنيَّةِ. إنَّ الهجومَ المُتكرِّرَ من الفئرانِ يَدفَعُهُ إلى التَّفاعلِ بعُنفٍ، بل ويتَّخذُ من قَتلِها أداةً لحلِّ مُشكلاتهِ. ولكنَّ الفأرَ الذي يَهرُبُ ويَعودُ مُنتقمًا يعكِسُ ضَعفَ هذا الحَلِّ البَسيطِ في مُواجهةِ التَّحدِّياتِ. إنَّ الفأرَ الذي يَنجو من مُحاولاتِ القَتلِ يُصبِحُ رمزًا للمَصيرِ الذي لا يُمكنُ السَّيطرةُ عليهِ، حيثُ يظلُّ الفعلُ العُدائيُّ ضدَّ الفأرِ غيرَ ناجحٍ ويُؤدِّي إلى فَوضى أكبرَ.
3. الفأرُ كرمزٍ للصِّراعِ الاجتماعيِّ:

الفأرُ في القِصَّةِ يُمثِّلُ الصِّراعَ الاجتماعيَّ، حيثُ أنَّ المَتجرَ نفسَهُ يُصبحُ ساحةً لهذهِ التَّفاعلاتِ الإنسانيَّةِ. الحاجُّ نادرٌ يتعامَلُ مع زبائنِهِ، مثلَ عادلٍ، من خلالِ سجِلَّاتِهِ الماليَّةِ ودَفترِ الدُّيونِ، وهي وسيلةٌ لتحديدِ مكانتِهمُ الاجتماعيَّةِ ومدى انخِراطِهم في شَبكةِ العَلاقاتِ الاقتصاديَّةِ. مع عَودةِ الفأرِ المُنتقمةِ، يَنقلبُ هذا الصِّراعُ بينَ البَشرِ إلى صِراعٍ مع “العالمِ الآخرِ” المُتمثِّلِ في الفأرِ، الذي يَعبثُ بكلِّ شيءٍ ويَسرِقُ منهُ ما يَملِكُ. هنا يُصبِحُ الفأرُ مُؤشِّرًا على كيفيَّةِ تَدميرِ الأَنظمةِ الاجتماعيَّةِ للمُجتمعاتِ الهَشَّةِ، حيثُ يشعرُ الحاجُّ نادرٌ بخَيبَةِ أملٍ بعدَ أن تمَّ تَدميرُ سجِلَّاتهِ الماليَّةِ بواسطةِ الفِئرانِ.
4. الفأرُ والاعترافُ بالمصيرِ:
في النِّهايةِ، يَختتمُ الحاجُّ نادرٌ القِصَّةَ بقَرارٍ غيرِ مُتوقَّعٍ: إعفاءُ الدَّائنينَ من دُيونِهم لهذا الشَّهرِ. قد يُفسَّرُ ذلك كنَوعٍ من “الكَرَمِ المُفاجئِ” أو حتَّى نَوعٍ من المُحاولةِ للبَحثِ عن نَوعٍ من التَّوازُنِ الدَّاخليِّ بعدَ الفَوضى التي تَسبَّبَ فيها الفأرُ. ولكن، من خلالِ تَساؤلاتِ عادلٍ في النِّهايةِ عن العلاقةِ بينَ الفِئرانِ والقَرارِ المُفاجئِ للحاجِّ نادرٍ، تَظهَرُ الرَّمزيَّةُ العَميقةُ في القِصَّةِ: هل الفأرُ هو الذي “أنقذَ” عادلًا، أم أنَّ الفأرَ قد أصبحَ حافزًا لتحوُّلاتٍ في حياةِ البَشرِ؟

من هُنا نَستنتجُ أنَّ الفأرَ في هذهِ القِصَّةِ لا يُستخدَمُ فقط كعُنصرِ تهديدٍ مادِّيٍّ، بل كرمزٍ يُمَكِّنُ من استِكشافِ التَّوتُّراتِ النَّفسيَّةِ والاجتماعيَّةِ. من خلالِهِ، يتمُّ تسليطُ الضَّوءِ على الصِّراعِ بينَ الفَقرِ والثَّراءِ، العَطاءِ والاستِغلالِ، الضَّعفِ والقُوَّةِ، وكيفَ أنَّ الكائناتِ الصَّغيرةَ قد تَكونُ قُوَّةً مُدمِّرةً في مُواجهةِ التَّهميشِ والفَوضى الاجتماعيَّةِ.

 

من إيجابياتِ القصةِ:

1. السردُ المتماسكُ والأسلوبُ الواقعيُّ: اعتمدَ الكاتبُ على أسلوبٍ بسيطٍ وواضحٍ يجمعُ بينَ الوصفِ والتسلسلِ المنطقيِّ للأحداثِ، مما أضفى شعورًا بالحيويةِ والواقعيةِ. على سبيلِ المثالِ، وصفُ روتينِ الحاجِّ نادرٍ هكذا: “ما إنْ يصبحُ حتى يبدأُ في تناولِ إفطارهِ المعتادِ، كأسِ حليبٍ مع خبزٍ عربيٍ طازجٍ، بعدها ينهضُ بخطواتهِ المتثاقلةِ إلى متجرهِ”.
2. تداخلُ الرمزيةِ مع الأحداثِ اليوميةِ: استُخدمتِ الفئرانُ كرمزٍ يعكسُ أزماتٍ صغيرةٍ تتحولُ إلى كوارثٍ، كما حدثَ مع دفترِ الديونِ الذي قُرِضَ. هذهِ الرمزيةُ تضفي بُعدًا فلسفيًّا يجعلُ القارئَ يتساءلُ عن علاقةِ التفاصيلِ الصغيرةِ بتحولاتِ الحياةِ الكبيرةِ.
3. بناءُ الشخصياتِ بعمقٍ: شخصيةُ الحاجِّ نادرٍ عُرِضَتْ بتفاصيلَ دقيقةٍ، كشخصٍ مترددٍ بينَ القسوةِ والكرمِ، وهو ما يظهرُ في قولهِ: “لقد تأخرتَ كثيرًا في سدادِ دينك الشهرِ الماضي… لولا تدخلُ المحسنين”. كما أنَّ شخصيةَ عادلٍ تظهرُ معاناةَ الطبقةِ الكادحةِ بوضوحٍ.

4. العقدةُ والحلُّ المبتكرُ: نهايةُ القصةِ جاءتْ مثيرةً وغيرَ متوقعةٍ، إذ قررَ الحاجُّ نادرٌ إعفاءَ الديونِ نتيجةَ حدثٍ غيرِ مألوفٍ. اللافتةُ التي علقها والفرحُ الذي أحدثه، جعلَ القصةَ تخرجُ برسالةٍ إنسانيةٍ عميقةٍ.

 

القصة الثالثة: «فتمخض الفأر»..

في هذه القصة، يُستخدم الفأر كرمزٍ أساسيٍّ في البناء السردي لتمثيلِ التهميشِ والصراعِ الإنساني. في البدايةِ، يَظهرُ الفأرُ باعتباره كائنًا بسيطًا وصغيرًا يَتنقلُ في عالمٍ ضخمٍ، لكن من خلالِ تفاعله مع الشخصيةِ الرئيسةِ، تصبحُ له دلالاتٌ أعمق تتعلقُ بالصراعِ الداخليِّ للإنسانِ مع ذاته ومع المجتمعِ. ونلحظ ذلك من خلال الآتي:

1. الفأرُ كرمزٍ للتهميش: حيثُ يمثلُ الكائنَ المهمش، مثل الشخصيةِ الرئيسيةِ التي تعيشُ في عزلةٍ وتتعاملُ مع الكائناتِ الصغيرةِ بلطفٍ، مما يعكسُ التهميشَ في المجتمعِ.

2. الفأرُ والصراعُ الإنساني: حيثُ يعكسُ صراعَ الإنسانِ مع ذاتهِ في محاولةِ إيجادِ مكانه في عالمٍ ضخمٍ، حيث يحاولُ الإنسانُ تحويلَ ضعفه إلى قوةٍ عبر الإبداعِ، كما يحاولُ الفأرُ أن يحققَ شيئًا أكبرَ من حجمهِ.
3. الفأرُ وحتميةُ المصير: حيثُ يرمزُ للمصيرِ الذي لا مفرَّ منه، وحتى محاولاتِ الإنسانِ للإبداعِ قد تؤدي إلى نتائجٍ غيرِ مكتملةٍ أو بعيدةٍ عن توقعاتِه.
4. دلالاتُ التهميشِ والصراعِ في المجتمع: الفأرُ يعكسُ الصراعَ الاجتماعيَّ للأفرادِ المهمشين، حيث أنَّ التفاعلَ مع هؤلاء يعكسُ محاولاتِ فهمِ كرامتهم، لكنهم يظلون في النهايةِ ضعفاءَ في نظرِ المجتمعِ.

5. التوظيفُ الرمزيُّ للفأر: الفأرُ ليس مجردَ كائنٍ، بل رمزٌ للهشاشةِ والقوةِ المحتملةِ، يكشفُ عن تناقضاتِ الحياةِ والتغيراتِ التي قد تحدثُ رغمَ الظروفِ القاسيةِ.
إيجابيات القصة:

1. الرمزية العميقة: تجسد رمزية “الفأر” و”الجبل” رحلة الإبداع الأدبي، حيث يعكس العنوان هذا المزج بين البساطة والعظمة.

2. الوصف الحيّ: يتجلى وصف البيئة والشخصية في اندماج البطل مع دراجته والغابة والمقبرة، مما يعكس وحدته وتأمله في الحياة والموت.

3. التفاعل مع الطبيعة: يبرز الكاتب حساسيته للتفاصيل عبر تفاعل الشخصية مع الحيوانات، مثل إطعام الفراخ والفئران.

4. النهاية المفتوحة: يثير توقيع الكتاب تساؤلات القارئ حول مضمونه ودوافع الشخصية، مضفيًا بعدًا غامضًا وجاذبًا.

 

القصةُ الرابعة: “شجرةُ البمبرة”:

في هذه القصة، يُستخدم الفأر كرمزٍ مركزي يُعبِّرُ عن التوتر الداخلي والمشاعر المتناقضة التي تعيشها معصومة. يمثلُ الفأرُ أكثر من مجرد كائنٍ حيٍّ صغيرٍ، فهو أداةٌ لاكتشاف الصراع النفسي والتهميش الذي يواجهه الإنسانُ في مواجهةِ المصيرِ والظروفِ الاجتماعية. من خلاله، تتجلى ثيماتُ القصة التي تتناول العلاقة بين الإنسان والمكان، بين الأمل والفقد، وبين العاطفة والمجتمع. الفأرُ يصبحُ وسيلةً لفهمٍ أعمق للتحديات الداخلية والخارجية التي تواجه الشخصية. نلحظ هذا من خلال التالي:

١. رمزية الفأر: الفأرُ يمثلُ الفوضى الداخلية، القلق، والألم الذي يعصفُ بمعصومة. فهو ليس مجرد كائنٍ ماديٍ في السرد بل أداةٌ لفهم التوترات النفسية.

٢. التهميش والصراع الداخلي: الفأرُ يبرزُ شعورَ معصومة بالتهميش في مواجهة المشروع الذي يهددُ وجودَ الشجرة والعلاقة العاطفية التي تربطها بها.

٣. المصير المشترك: العلاقة بين معصومة والشجرة تُظهرُ التداخل بين الشخص والمكان، حيث يمثل الفأرُ الصراع بين الحفاظ على الماضي والتعايش مع التغيرات المفروضة من المجتمع.

٤. التناقضات النفسية: الفأرُ يعكسُ التناقضات العاطفية التي تعيشها معصومة، بين الأمل في إنقاذ الشجرة والفقد المحتمل لجارتها “أم حسن”.

٥. العلاقات الاجتماعية: الفأرُ يصبحُ رمزًا للألم الناتج عن التغييرات الاجتماعية التي تهدد الاستقرار الشخصي والعاطفي، ويُظهرُ كيف يمكن للضغوط الاجتماعية أن تؤثر على علاقات الأفراد داخل المجتمع.

ومن إيجابياتِ القصة:

1. التصوير البصري والعاطفي: الوصفُ الحسيُّ القويُّ جعلَ القارئ يشعرُ بكل تفاصيلِ القصة، مثل:
“تتذكرُ وهي تعصرُ بكفها ثمرةَ البمبرة مخرجةً غشاءَها المخاطي، وصديقاتها يتقاذفن ما بأيديهن من ثمارٍ وقد ملأن الحيَّ صخبًا بضحكاتهن.”
2. استخدام الرموز: الشجرةُ كانت رمزًا قويًا للذكرياتِ والاستقرارِ، وتحولها إلى خطرِ الفقدانِ يعكسُ الحالةَ النفسيةَ لمعصومة.
3. الموضوع الاجتماعي: تناولُ مشروعِ الطريقِ والهدمِ أثرَّ بشكلٍ ملموسٍ على شخصياتِ القصة، مما يبرزُ الأبعادَ الاجتماعيةَ بشكلٍ واضح. والنهاية المتوازنة: المزجُ بين فرحِ نجاةِ الشجرةِ وحزنِ فراقِ الجارةِ كان ذكيًا وأثرى القصة.

القِصَّةُ الخَامِسَةُ “مَاكِينَةُ بَدْرِيَّةَ”

الفأر في القصة ليس مجرد كائن مادي، بل رمز للتوترات النفسية والاجتماعية، كاشفًا الصراعات الداخلية والتهميش والضغط الاقتصادي. تدميره للفستان يتجاوز الخسارة المادية، ليجسد الصراع بين الرغبات المكبوتة والواقع القاسي. يظهر الفأر كتعبير عن الفوضى الكامنة داخل الشخصيات وعلاقاتها، حيث يبرز توتر العلاقة الزوجية ويكشف أعماق الصراعات النفسية. يتداخل مع رمزية الماكينة، التي تمثل الأمل والاستقرار، ليؤكد هشاشة القيم المادية أمام التغيرات المفاجئة.

الفأر في القصة ليس مجرد عنصر عابر، بل أداة روائية تكشف الصراعات النفسية والاجتماعية والاقتصادية. يتجلى دوره في إبراز التوتر بين العناصر المادية كالفستان والماكينة، والعناصر النفسية كالرغبات المكبوتة والقلق، ليعكس التآكل الداخلي الذي يهدد الشخصيات. تحوله إلى مصدر للخراب يبدد الاستقرار الظاهري، كاشفًا هشاشة الأمان المبني على المادة. كما يرمز إلى الحتمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث يمثل اختراقه للفستان انهيار الصورة المثالية، ويؤكد أن الضغوط المجتمعية قد تفضي إلى تحولات جذرية في حياة الأفراد.

إيجابيات القصة تتجلى في استخدامها البديع للتشبيهات والوصف الرمزي، مما يضفي على السرد طابعًا بصريًا عميقًا. التوتر النفسي المتصاعد يكشف عن أبعاد نفسية معقدة تتعلق بالعلاقات الإنسانية والرغبات المكبوتة. السرد يتدفق بسلاسة، مما يجعل الأحداث مشوقة دون أن تفقد التفاصيل وزنها الدرامي. كما أن القصة تبرز بذكاء البعد الاجتماعي لحياة القرى، حيث تُوظَّف الرمزيات لتجسيد هشاشة الواقع الاقتصادي، مما يضفي على العمل طابعًا واقعيًا عميق التأثير.

القصةَ السادسة، والأخيرة: “أحشاءُ الفأر”

يبدو أنَّ القصة تعتمد بشكل عميق على الرمزية الفلسفية والاجتماعية، مما يجعل الفأر ليس مجرد كائن روائي، بل رمزًا معقدًا للضعف والتهميش والصراع داخل المجتمع. التوظيف الرمزي للمختبر يعكس بنية مجتمعية قاسية تُخضع الفئات الضعيفة للمراقبة والاستغلال، بينما الأسئلة التي يطرحها الفأر تكشف عن تساؤلات أخلاقية وفلسفية جوهرية حول العدالة وحق الكائنات في الوجود.

حتمية المصير التي تنتهي بها القصة تضيف بعدًا مأساويًا يعزز الشعور بالعجز أمام الأنظمة القمعية، سواء كانت علمية أو اجتماعية. هذه الرمزية تجعل القصة تطرح قضية تتجاوز مجرد العلاقة بين الإنسان والحيوان، لتصل إلى نقد أعمق للنظام الإنساني ذاته.

إيجابيات القصة تبرز في عناصرها السردية والرمزية والفلسفية، مما يجعلها تجربة قراءة غنية ومؤثرة. السرد المتقن يخلق جوًّا من التوتر المستمر، بينما يعزز الحوار عمق القصة، إذ يتحول الفأر من مجرد كائن ضعيف إلى صوت فلسفي ناقد. الرمزية المستخدمة في المختبر والتجارب العلمية تفتح أفق التفكير حول العدالة والتهميش، مما يمنح القصة بعدًا نقديًا يتجاوز مجرد السرد التقليدي.

أما النهاية المفتوحة، فهي من أبرز نقاط القوة، حيث تترك مجالًا للتأويل، وتجعل القارئ يتساءل عن احتمالات التغيير في الواقع الذي تمثله القصة. هذا النوع من النهايات يعزز من تأثير العمل ويجعله أكثر رسوخًا في ذهن القارئ.

الخُلاصَةُ:
القِصَّةُ “أَحشاءُ الفأرِ” تَعدُّ عَملًا أَدَبِيًّا مُثِيرًا يَطرَحُ أَسئِلَةً فَلسَفِيَّةً وأَخلاقِيَّةً عَميقَةً حَولَ دَورِ الإنسانِ في استِخدامِ الكائِناتِ الحَيَّةِ في التَّجارِبِ العِلمِيَّةِ. كَما تَظلُّ تَحمِلُ مَغزًى كَبِيرًا يَعكِسُ واقِعًا إنسَانِيًّا مُشتَرَكًا، وتَتَّسِمُ بالتَّشوِيقِ والإِثارَةِ الفِكرِيَّةِ.

ختامُ ورقتنا:

تكشفُ المجموعةُ القصصيّةُ مذكّراتُ آخرِ فئرانِ الأرض لموسى الثنيان عن توظيفٍ رمزيٍّ عميقٍ للفأر، ليسَ كمجردِ كائنٍ هامشيٍّ، بل كمرآةٍ تعكسُ هشاشةَ الإنسانِ وصراعَهُ الأزليَّ مع السلطةِ والمصير. تتحوّلُ القصصُ الستُّ الأولى بالفأرِ من مجرّدِ حيوانٍ قارضٍ إلى رمزٍ للتحوّلاتِ الاجتماعيةِ والنفسيّةِ، مُجسّدًا التهميشَ، والمقاومةَ، والبحثَ عن مكانٍ في عالمٍ لا يمنحُ الضعفاءَ سوى الفُتات، كما يعكسُ بؤسَ الحياةِ المتقشّفةِ والفقرَ المدقعَ والانهيارَ الاقتصاديَّ الذي يُخيّمُ على شخصيّاتِ النصوصِ وأمكنتِها.

لا يكتفي العنوانُ، بوصفهِ العتبةَ الأولى لقراءةِ المجموعةِ والغوصِ في عوالمِها، بإيحاءاتِ الفقرِ والهامشيّةِ، بل يُوحي بأنَّ الفأرَ ليسَ مجرّدَ عنصرٍ سرديٍّ، وإنّما هو الكائنُ المحوريُّ الذي يحملُ على عاتقِهِ مأساةً وجوديّةً تتجاوزُ طبيعتَهُ البيولوجيّةَ، ليصبحَ أداةً فلسفيّةً تكشفُ تناقضاتِ النفسِ البشريّةِ وتحولاتِ المجتمع، وصوتًا يروي معاناتَهُ مع البشرِ وما واجهَهُ من ظلمٍ واضطهادٍ، وفي الوقتِ ذاتهِ ما لقيَهُ من لطفٍ ورعايةٍ من بعضِهم. وبهذا، لا تقدّمُ المجموعةُ قصصًا عن الفئرانِ فحسب، بل شهاداتٍ على زمنٍ يتآكلُ، حيثُ يصبحُ المهمَّشون شهودًا على تحوّلاتِ العالمِ الكبرى.

رغمَ هذا التوظيفِ الرمزيِّ العميقِ، كانَ بالإمكانِ أن تكتسبَ قصصُ المجموعةُ بُعدًا فلسفيًّا وإنسانيًّا أعمقَ لو اختارَ الكاتبُ سردَ الأحداثِ من وجهةِ نظرِ الفأرِ نفسِه، كاشفًا عبرَ عينيهِ البريئتَينِ قبحَ العالمِ وجمالَهُ، بؤسَهُ وتعاطفاتِه، أحلامَهُ وكوابيسَهُ، ممّا كانَ سيمنحُ النصوصَ بعدًا تأمليًّا أكثرَ ابتكارًا ودهشةً، ويفتحُ آفاقًا أوسعَ للتأملِ في علاقةِ الإنسانِ بالآخرِ، حتى لو كانَ هذا الآخرُ في هيئةِ فأرٍ. إنَّ استحضارَ صوتِ الفأرِ مباشرةً كانَ من شأنِهِ أن يُذيبَ الحدودَ بينَ الواقعِ والرمزِ، وبينَ الصغيرِ والهامشيِّ والمهمَّشِ، وبينَ الحكايةِ والتأملِ الوجوديِّ، ليُروى العالمُ من زاويةٍ غيرِ مألوفةٍ تجعلُ القارئَ يُعيدُ النظرَ في المسلّماتِ، مستشعرًا عبثيّةَ الحياةِ وقسوتَها من خلالِ صوتِ كائنٍ طالما طاردَهُ الإنسانُ وأقصاهُ، ليصبحَ الفأرُ ذاتُهُ هو الشاهدَ والحَكَمَ، والضحيّةَ والساردَ، في آنٍ معًا.

هذا والله الموفق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى