المقالات

قراءة في مسلسل مراهق العائلة: حين يُربّي الإنترنت أبناءنا بصمت!

في دراما صادمة ومليئة بالتوتر النفسي، يضعنا مسلسل “مراهق العائلة” أمام سؤال مربك ومزعج:
متى فقدنا أبناءنا؟ وكيف تسللت أفكار الكراهية إلى عقولهم دون أن نشعر؟
المسلسل البريطاني، الذي يعرض هذه الأيام على منصة الـــ (نت فليكس)، يتناول قصة (جيمي)؛ مراهق يبلغ من العمر 13 عامًا، يُعتقل بتهمة قتل زميلته في المدرسة.
تبدأ الأحداث من لحظة القبض عليه، لكن الحكاية الحقيقية تبدأ حين نحاول – نحن المشاهدين – فهم ما حدث قبل ذلك.
وهنا تتجلّى عبقرية العمل: إنه لا يكتفي برواية جريمة، بل ينبش تحت السطح. في الظلال. في تفاصيل البيوت الهادئة، وفي الشاشات التي تُربّي وتقتل أبناءنا بصمت.
وليس غريبًا أن تُشيد صحيفة الــــــ (جارديان) البريطانية بالمسلسل وتصفه بأنه:
“أقرب ما يكون إلى الكمال التلفزيوني خلال العقود الأخيرة.”
إشادة كهذه لم تأتِ من فراغ، فالمسلسل لا يعتمد على الحيلة أو الإثارة الرخيصة، بل يقدّم مادة درامية عميقة، تمسك بتلابيب النفس والضمير.

رسالة المسلسل: الذكورة في خطر!
الثيمة الأساسية التي يطرحها العمل تتمثل في الذكورة السامة، ولكن دون مباشرة أو وعظ. يسلّط الضوء على ما يُعرف بـ “المانوسفير” و”الإنسيل”، وهي مجتمعات رقمية متطرفة تُغذّي الأولاد الذكور بمفاهيم خاطئة عن القوة، والسيطرة، واحتقار النساء.
المسلسل لا يُدين (جيمي) فقط، بل يُدين الصمت الأسري، والتقصير المجتمعي، وغياب الحوار مع الأبناء. إنه ينذر بأننا ما لم نتحدث إليهم … فسيجدون من يُحدثهم بدلًا عنّا.

المسلسل دراما نفسية تربوية تهزّ قلوب الآباء قبل أن تُدين الأبناء

ما الذي رأته المحققة النفسية في عيني جيمي؟
من أبرز مشاهد العمل تلك اللحظات التي تلت لقاء المحققة النفسية بالفتى جيمي داخل غرفة التحقيق. لم تُصدر حكمًا، لكنها خرجت بصمتٍ ثقيلٍ، كما لو أنها حملت معها شريطًا صامتًا من الألم والارتباك.
في علم النفس الجنائي، هناك إشارات لا يكذب فيها الجسد:
• نوبات الغضب السريعة: (جيمي) لا يغضب لأنه شرير، بل لأنه لا يعرف كيف يُعبّر عن الألم. الغضب عنده غلافٌ هشّ يخفي تحته خوفًا طفوليًا من الرفض أو الإذلال أو الشعور بالضعف.
• لغة الجسد الدفاعية: انكماش كتفيه، تثبيت النظر للأسفل، وانعدام التواصل البصري… إشارات توحي بأنه في حالة صراع داخلي: هل يدافع عن نفسه؟ أم يستسلم؟
• لغة الحوار المتقطعة: إجاباته مقتضبة، يتهرب من التفاصيل، لكنه لا يكذب باحتراف. هذا التردد دليل على مراهق لم يُدرَّب على الصراحة، بل على الاختباء.
المحققة أدركت أنه ليس وحشًا، بل ضحية، وأنه يحمل في داخله أثر أصوات خفية سمعها في عوالم الإنترنت المظلمة… أصواتًا جعلته يخلط بين القوة والقسوة، بين الرجولة والسيطرة، بين الاستحقاق والانتقام.

بين قسوة الجد وتراخي الأب: حين لا تكون النية وحدها كافية
في خلفية القصة، نكتشف أن والد جيمي نفسه كان ضحية لعنفٍ أسري، وأنه تعرّض للضرب والتوبيخ من والده؛ جدّ (جيمي) عندما كان طفلًا. وفي ردّ فعلٍ مفهوم، قرر هذا الأب ألا يمدّ يده أبدًا على أبنائه… أراد كسر الحلقة.
لكنه، دون أن يدري، كسر السلطة التربوية نفسها.
فلم يعد حاضرًا في حياة ابنه، لا كموجّه ولا كمحتضن. غاب حين كان الحضور ضروريًا، وصمت حين كانت الكلمة واجبة.
المفارقة الموجعة أن طريقة الجد العنيفة لم تكن صائبة، ولا طريقة الأب المتراخية أنقذت ابنه.
الأول ربّى بالخوف، والثاني ربّى بالفراغ.

حوار الأب والأم: صرخة متأخرة في العتمة
في أحد المشاهد المؤثرة، تنفجر الأم في وجه الأب:
“أين كنت؟”
فتأتي إجابته مكسورة:
“كنت أظن أني أحميه… بعد الذي مررت به.”
هذا الحوار القصير، العميق، يُلخّص مأساة كثير من الأهل:
يظنون أن النية الطيبة تكفي، لكن التربية ليست نوايا فقط، بل وعي، ومرافقة، وحدود، وحوار.
فما الذي كان عليهما أن يفعلاه أكثر؟
• أن يقتربا من جيمي مبكرًا، ويعرفا عالمه الداخلي.
• أن يُدرّباه على التعبير عن مشاعره بدل كتمانها حتى تنفجر.
• أن يوفّرا له بدائل صحية للانتماء بدل أن يبحث عن هوية في منصات ملوّثة.
• أن يتشاركا التربية، بدل أن تتحمّل الأم العبء كله، بينما يختبئ الأب خلف صدمة طفولته، والتكسب من قيادة شاحنته.

نقاط القوة:
• جرأة الطرح: يتناول موضوعًا حساسًا ومعقدًا بطريقة ذكية، بعيدة عن الابتذال أو الشفقة.
• أداء تمثيلي مذهل: خصوصًا من الطفل الذي يجسّد شخصية (جيمي)، وأمه، التي تخوض صراعًا داخليًا بين الأمومة والشك.
• تشويق نفسي هادئ: لا يعتمد على الإثارة التقليدية، بل على تصاعد التوتر والريبة والسؤال الأخلاقي الذي يثقل صدرك مع كل حلقة.
• واقعية الطرح: المشاهد ستشعر أن القصة ليست بعيدة عن عالمنا، بل قريبة من كل بيت فيه مراهق يحمل هاتفًا ذكيًا.

نقاط الضعف:
• الوتيرة البطيئة في بعض الحلقات: قد يشعر بعض المشاهدين بالملل في المنتصف، خصوصًا من لا يهوى الأعمال النفسية المركّبة.
• غياب زاوية المدرسة أو المجتمع المدرسي: رغم أن الجريمة حدثت في محيط المدرسة، إلا أن المسلسل يركز أكثر على العائلة والتحقيقات، وكان من المفيد التوسّع أكثر في بيئة الضحية والجاني داخل المدرسة.
• لا يقدم حلولًا واضحة: يتركك العمل مثقلًا بالأسئلة، وربما يحتاج المشاهد إلى سياق تربوي مساعد أو ملاحق توعوية بعد المشاهدة.

الخلاصة:
“مراهق العائلة” ليس عملًا ترفيهيًا بالدرجة الأولى. إنه جرس إنذار.
إنه يطالبنا، نحن الكبار، بأن نُعيد اكتشاف أطفالنا، ونفهم ما يشاهدونه، ومن يتحدث إليهم، وماذا يُقال لهم.
ليس من الضروري أن نحب المسلسل،
لكن من الضروري أن نُصغي إليه.

اقتباس المقال:
“هذا المسلسل لا يسأل: من قتل الفتاة؟ بل يسأل: من علّم الطفل أن يكون قاتلًا؟”

أخيرًا:
استوقفتني كثيرًا… تلك الدمعة الوحيدة التي انسلت من عين المحققة النفسية بعد زيارتها الأخيرة للفتى.
لم تكن مجرد ردة فعل مهنية، ولا لحظة شفقة عابرة.
كانت اعترافًا مبطّنًا، موجعًا، بأنها رأت فيه شيئًا لم يره أحد.
رأت الطفل الذي حاول أن يكون قويًا لأنه لم يجد من يحتضن ضعفه.
الذي اختار الصمت لأنه لم يثق أن أحدًا سيصغي.
الذي ارتدى قناع البرود، بينما كان قلبه يتصدّع في الداخل.
دمعتها لم تكن عليه فقط، بل علينا جميعًا.
على عالمٍ ترك أبناءه يتربّون في دهاليز الإنترنت، وعلى بيوتٍ ظنّت أن الحب وحده يكفي… دون حضور، ودون حوار.
لقد بكت لأنها رأت الحقيقة متأخرة، كما نراها نحن… حين تنتهي الحلقة الأخيرة.

خلف سرحان القرشي

مؤلف ومترجم ومدرب في الكاتبة الإبداعية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى