قليل من الأمم في التاريخ استطاعت أن تنتقل من البدايات المتواضعة إلى قمم الريادة والقيادة، وأن ترسم لنفسها طريقًا يجعلها في طليعة المشهد العالمي، والمملكة العربية السعودية تمثل أنموذجًا فريدًا لهذه الرحلة الاستثنائية. فقد بدأت كغيرها من المجتمعات البدوية في جزيرة العرب، حياة بسيطة عمادها الرعي والتجارة، وقيمها الكرم والشهامة والوفاء، وكان رعي الغنم مظهرًا يوميًا لحياة الصحراء، لكنه أيضًا رمز لتواضع البدايات ونقاء الفطرة. ومثلما رعى الأنبياء الغنم قبل أن يرعوا الأمم، كانت هذه التجربة مدرسة في الصبر والقيادة وبناء الإنسان.
وعندما وحّد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود أرجاء البلاد لم يكن النفط قد اكتُشف بعد، بل كانت البصيرة والرؤية والتمسك بالقيم الإسلامية هي الأساس. انطلقت المملكة بخطى ثابتة نحو بناء الدولة الحديثة، مؤسسة على العدل، ومنفتحة على التطوير، إلى أن جاء اكتشاف النفط فكان نقطة تحول كبرى في مسيرتها، لكنه لم يكن غاية في ذاته، بل وسيلة لبناء الإنسان وتنمية المكان، وتحقيق الاستقرار للوطن والمساهمة في رفاه العالم.
رسالة المملكة لم تقتصرعلى التنمية الداخلية، بل مدت يدها إلى الخارج دعمًا ومساندة، حيث قدمت منذ تأسيسها مئات المليارات من الدولارات دعمًا مباشرًا وغير مباشر لعدد كبير من دول العالم والمنظمات الدولية، دون منّة أو دعاية، بل من منطلق واجب إنساني تمليه المبادئ الإسلامية والأخلاق العربية الأصيلة. كانت المملكة ولا تزال، حاضرة في كل أزمة وكارثة، تمد الجسور لا الحواجز، وتزرع الأمل بدل أن تكتفي بالمراقبة.
قدمت المملكة مشاريع ضخمة وجبارة لا نظير لها في التاريخ الإسلامي، تمثلت في التوسعات التاريخية للحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، من توسعة صحن الطواف والمطاف، إلى الجسور والأنفاق، وخطوط النقل والبنية التحتية المتقدمة التي سهلت الحج والعمرة لملايين المسلمين من مختلف بقاع الأرض، في صورة تجمع بين الإيمان والتقنية، وتترجم العناية الفائقة بضيوف الرحمن.
أصبحت مكة المكرمة والمدينة المنورة رمزًا للحضارة الإسلامية المعاصرة، وواجهة مشرّفة تعكس ما وصلت إليه المملكة من قدرة على الجمع بين الأصالة والتحديث.
ومع انطلاق رؤية 2030 بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله دخلت المملكة مرحلة جديدة من التحول الطموح، تنوّع فيها الاقتصاد، وبرزت فيها مشاريع كبرى مثل “نيوم” و”ذا لاين”، وصعدت قطاعات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة، وأصبح الإنسان السعودي هو المحور الأول لهذا التطور، مزودًا بالعلم والطموح والقدرة على المنافسة العالمية. لم تعد المملكة تكتفي بالدور التقليدي، بل أصبحت تقود مبادرات دولية في قضايا المناخ، والطاقة، والتنمية المستدامة، وتبني شراكات استراتيجية مع الشرق والغرب. وتحولت الرياض إلى بوصلة للحوار بين الدول العظمى، وملتقى للقرارات الاقتصادية والسياسية الكبرى، تعكس مكانة المملكة كمركز ثقل في العالمين الإسلامي والدولي.
وهكذا، لم تعد “رعي الغنم” مجرد ماضٍ يُذكر، بل أصبح رمزًا لرحلة بدأت بالتواضع وانتهت بالتأثير العالمي، وأصبحت المملكة بحق “راعية للأمم”، تسهم في توجيه المسارات الدولية، وتحمل رسالة الاعتدال والإنسانية والتنمية، بروح تستلهم الماضي وتبني المستقبل. إنها قصة وطن لم يولد كبيرًا، لكنه كبر برسالته وقيمه، وارتقى بإرادته حتى أصبح مثالًا يُحتذى، وصوتًا يُسمع، وأمة تُحترم.

0