قال تعالى في محكم كتابه: “رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ”.
العجيب حقًا أن مكة ليست فيها مما يطلبه أهل الدنيا شيء! فلا بساتين ولا أنهار، ولا أجواء ساحرة، ولا متع من متع الدنيا الزائلة! ومع ذلك، تقصدها القلوب والأبدان. إنه السر الرباني الذي لا يفهمه إلا من آمن بالله ربًا، وبمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولًا.
وصدق الشاعر إذ يقول:
يا مكةَ اللهِ قد مَكَّنْتِ لي حَرَمًا … مُؤَمَّنًا لستُ أشكو فيه مِن داءِ
شوقُ الفؤادِ إلى مَغْنَاكِ متَّصِلٌ … شوقَ الرياضِ إلى طَلٍّ وأَنْداءِ
لست بصدد استقصاء فضائل هذه الأرض الطيبة المقدسة، فقد كُتِب فيها من الأوراق والكتب والمجلدات والأشعار والأبيات ما فيه غُنية وكفاية. لكنني أحب أن أشير إلى معنى ضروري، وهو معنى النقاء؛ فقد أراد الله لهذه الأرض المقدسة أن تكون نقية:
• نقية من العصيان، فقد قال سبحانه: “وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ”، والإلحاد معناه الشرك واستحلال الحرام وسائر المنكرات. بل قال بعض أهل العلم: “من همَّ بسيئة في مكة أذاقه الله العذاب الأليم وإن لم يفعلها”. [انظر: تفسير ابن كثير]
• نقية من العدوان، فقد جعلها ربنا حرمًا حرامًا، فقال: “عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ”، فحرَّم القتال فيها، وحرَّم حمل السلاح لغير ضرورة، وحرَّم صيدها، وحرَّم نباتها، وحرَّم لُقَطَتها، وحرَّم على الدجَّال أن يدخلها ويؤذي أهلها.
• نقية من الأضغان، فقد كان قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخوله مكة: “اذهبوا فأنتم الطلقاء” مؤذنًا بأن مكة ليست للأحقاد، ولا لتصفية الحسابات. ثم إن الله شرع اجتماع المسلمين فيها من الآفاق إخوةً متساوين، ليملأ قلوبهم حبًا، ويطهرها من الحقد والكُرْه.
إنه النقاء التام الذي لا تشابهها فيه مدينة أخرى، فالحمد لله الذي كتب لنا جوارها، وجعلنا جميعًا أبناء هذه البلاد المباركة من خُدَّامها.
ومن الأوصاف القرآنية لمكة المكرمة أن الله جعلها “مثابةً للنَّاسِ وَأَمْنًا”، وهذه الكلمة القرآنية الرشيقة تحمل معاني كثيرة، منها أن زُوَّار هذا البيت لا يقضون منه حاجتهم مهما مكثوا، فإذا انصرفوا تحيَّنوا الفرصة ليثوبوا إليه، أي: ليعودوا إليه.
ومن عرف مكة، عرف كيف انصهرت في حماها كل الأجناس، وتألفت في أحيائها كل الأعراق، ودبَّت على شوارعها ملايين الأصناف من البشر. إنها “المثابة” التي تجمع كل من آمن بالله ورسوله، وتسوِّي بينهم، فليس في حضرة البيت العتيق شريف ولا وضيع إلا بالتقوى، فالكل سواء بنص الوحي الإلهي: “وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً”.