“لا يمكنك أبدًا أن تستبدل أي شخص، لأن كل شخص يتكوّن من تفاصيل جميلة وخاصة جداً”
– Before Sunset (2004)
بهذه العبارة البسيطة، يفتح لنا “جيسي” نافذة على أحد أكثر أسرار العلاقات الإنسانية عمقًا، فكل إنسان نلتقيه على وجه هذه البسيطة يحمل بصمته الخاصة، تلك التي لا يمكن تقليدها أو استنساخها، مهما تشابهت الظروف أو تكررت المواقف.
فنحن لا نتعلّق بالأشخاص بحدّ ذاتهم، بل بتلك النسخة الفريدة التي لم تظهر إلا في لحظة صدق، في كلمةٍ دافئة تسلّلت إلى القلب دون استئذان، في نظرةٍ قرأت ما لم يُقَل، وأجابت عن أسئلةٍ لم نجرؤ يومًا على طرحها.
فكلّ شخصٍ في حياتنا هو كزهرةٍ نادرة، كما قال سانت إكزوبيري في الأمير الصغير: “إن ما يجعل زهرتك مميزة هو الوقت الذي قضيته في الاعتناء بها” وهكذا، لا يكون الخلود في حضور الأشخاص أنفسهم، بل في الذكريات التي ننسجها معهم، فالذكرى لا الجسد هي من تُبقيهم أحياء في وجداننا الرغبوي، وفي زوايا الشوق التي لا يطالها النسيان.
وأعلمُ أن إدراك هذا المعنى في زمن العجلة ليس هينًا، فالعلاقاتُ أصبحت تُستهلك كما تُستهلكُ أخبار المشاهير، والمشاعر تُنسى على عتبات العُبور السريع، لكننا حين نتوقف قليلًا ونتأمل ما فقدناه، ونُنصت لما غاب عنّا، ندرك أن الأرواح لا تُمحى من الذاكرة بتقادم التفاصيل، بل تبقى محفورة في لحظة ضحكة جاءت كنسمة في غير أوان، وفي سؤالٍ صادقٍ حمل بين حروفه حبًّا لا يُشبهه حب، وفي لحظة صمتٍ لها لغة لاتُقال، فتهمس بها نظرة حالمة، ويفوح منها عطر لم يعرفه الهواء قط!
ولعل الأمر لا يتعلق بالحنين إلى الشخص بحد ذاته، بل إلى الشعور الذي لم يستطع سواه أن يمنحنا إياه، وهذه ليست أنانية، بل على العكس تمامًا، إنها وجه نقيّ من وجوه الوفاء، وصورة صادقة من صور حفظ العهد، فالتفاصيل التي نشأت بيننا، والتي وُلدت في زوايا الروح الضيقة كانت لنا وحدنا، ولهذا لا أحد يُستبدل! فالذكريات لا الأشخاص هي من تجعل الأماكن تنبض بالحياة، وتمنح للوجوه القديمة مكانًا أعمق في دواخلنا مع كل ما يشاهد في واقع اليوم.
وحين يغيب أحدهم، لا يكون الحزن لمجرد الغياب، بل لأننا ندرك في أعماقنا، أن ما كان بيننا لم يكن مجرد علاقة عابرة بل لوحة فريدة رسمتها اللحظة، واختلطت ألوانها بمشاعر لاتتكرر، لوحة لا تُرسم مرتين، ولا يمكن للعمر أن يمنحنا مثلها ثانية.
إننا لا نبكي الأشخاص بذاتهم، بل نبكي الطريقة التي جعلونا نشعر بها، والنسخة منّا التي لم تظهر إلا معهم! فالحب الحقيقي وكذلك الصداقة الصادقة، لا تخلّف فراغًا عاديًا، بل تترك أثرًا، نقشًا صغيرًا في الروح لا يُمحى، ولا يُعاد تشكيله، تمامًا كالنقش في الحجر: ثابت، وأبدي، وصامت… لكنه لا يُنسى.
أحيانًا قد تتحول اللحظات العابرة إلى ذكريات خالدة، فكلُّ من يعبر بنا، يحمل احتمال أن يكون قصة لا تتكرر، تُكتب في “ذاكرة القلب”، تلك الذاكرة التي لا تُصاغ من منطق الواقع، بل تتشكّل وتتحرّك برغباتنا، بما أردناه أن يكون، لا بما كان فعلًا؛ فاحفظوا تفاصيل من تحبّون، وامنحوا وقتكم لما هو صادق حتى وإن بدا خياليًا.
ماشاء الله تبارك الرحمن ؛ مقالة تلامس القلب و تداعب الذكريات شكرًا لإبداعكم
تستدعي الذكرى مشاعر الإنسان فور العودة إليها، هي ماتجعل الإنسان حقيقياً بلا زيف، وغالباً تستدعي أرق شعور في الإنسان وهو الحنين ..
شكر وامتنان ..