المقالات

ما يصير يا جماعة

«زاوية منفرجة»

قبل سنوات دعا رجل الأعمال المغربي، نور الدين عيوش، في مذكرة رفعها إلى الديوان الملكي ومجلس الوزراء، الى جعل العامية المغربية لغة المناهج المدرسية. وسبقه الى ذلك الشاعر اللبناني سعيد عقل، والغريب في الأمر أن عقل بنى مجده بكتابة شعر جميل بالعربية الفصحى، ولكن المقترح نفق، وانشغل اللبنانيون بأمور أكثر أهمية، مثل القتل على الهوية، والبحث عن أوطان بديلة

عندما اطلعت على دعوة عيوش وجدت نفسي أتساءل: وشهو؟ شنو؟ شي؟ شنهو؟ وللقراء الأميين أقول إن كلمة “ماذا” تقوم مقام الكلمات الأربع التي تساءلت بها، وعندي سعال يا سيد عيوش (ولا تتعجل وتقاطعني قائلا إنك لست طبيبا يداوي السعال الديكي أو الدجاجي، لأن سعالي هي “سؤال” في عاميات عربية في أجزاء من السودان وفلسطين وربما غيرهما): إزاي وشلون هيدا لقتراح؟

 

ولي تجربة شخصية مع العامية المغربية، فقد كنت مكلفا بالترجمة الفورية من العربية إلى الإنجليزية في المؤتمر الإقليمي لمنظمة “هابيتات/ الإيواء” التابعة للأمم المتحدة في فندق في دبي، وجاء الدور على مندوب المغرب، فقدّم تقريرا حسن السبك والإعداد، عن تجربة بلاده في الإيواء والإسكان، ثم بدأ يرتجل بالعامية، ووجدت نفسي أطرشا في الزفة، ولم أفلح في ترجمة كلمة مما كان يقوله، وكان رئيس المنظمة كنديا، فأشار إلى وأنا قابع في زنزانتي الزجاجية بما يفيد أنه لا يسمعني، فقلت في المايكرفون بالنص: أنا طالع كيت، وقلت بالإنجليزية إنها عبارة سودانية تعني إن الشخص لا يفهم ما يقال أو يدور من حوله، وانفجرت القاعة بالضحك، لأن جميع الوفود العربية، باستثناء الوفد الجزائري، وضعوا السماعات على آذانهم ليفهموا من المترجم العبقري، ما يقوله زميلهم بالعربية المحكية لبلاده.

ورغم أنني لم أزر المغرب، إلا أنني أحلف بالطلاق بقلب جامد، أنه لا توجد لهجة مغربية عربية، بل “لهجات” عربية مغربية، كما هو الحال في معظم الدول العربية، حيث تتقارب اللهجات وتتباعد من إقليم إلى آخر داخل كل دولة، وبالتالي فرغم أنني سوداني مع سبق الإصرار والترَبُّص، إلا أنني لا أفهم كلام بعض السودانيين عندما يتكلمون العربية بلهجات مناطقهم وقبائلهم، ويا ما تعرض أطباء أسنان سودانيون حديثو عهد بمنطقة الخليج للطعن في كفاءاتهم، بل وقواهم العقلية، لأن الواحد منهم يقول لمريضه الخليجي: لو سمحت افتح خشمك، فيكون رد فعل المريض أن يسال الطبيب: وش فيك؟ الأسنان عندكم في السودان تكون في الخشم. فالخشم عندنا في السودان وفي اجزاء من جنوب مصر هو الفم، بينما هو عند الخليجيين (وهم على صواب) هو الأنف.

في بريطانيا، سيدة اللغة التي تسيَّدت الساحة الدولية، ألا وهي الإنجليزية، يختلف كلام أهل مانشستر عن كلام أهل لندن، وكلام سكان ليفربول عن كلام ساكني نيو كاسل، ومن ثم فإن التدريس في بريطانيا يكون بما يسمى “ستاندرد إنجليش” أي الإنجليزية المعيارية القياسية، وهي “الفصحى”، ولكنني اتفق مع من يقول إن حقن مناهج اللغة العربية المدرسية بجرعات هائلة من النحو، وما كان من بلاغة في عصر حمورابي، يجعل دروس العربية ثقيلة على نفوس الطلاب في مستهل مسيراتهم الأكاديمية.

تكمن العِلّة في دعوة جعل العامية لغة التدريس، في أن دعاتها يتعللون بأن العربية الفصحى “صعبة”، وهناك إجماع بين العوام في كل أنحاء العالم بأن اللغة الصينية هي الأكثر صعوبة على مستوى الكرة الأرضية، ولكن لو كان الأمر كذلك لما تسنى لطفل صيني عمره اربع سنوات أن ينطق بها، ولما تسنى لصبي صيني في الخامسة عشر أن يعبر بها عن نفسه في اختبارات كافة المواد الأكاديمية، والغريب في الأمر أن المتفقهين في اللغات، وعندما يصنفونألسنة الشعوب من حيث صعوبة النطق بمفرداتها وتركيب الجمل والكتابة، لا يضعون اللغة العربية بين “العشرين الأوائل” من حيث الصعوبة، بل تأتي الفرنسية على رأس القائمة التي وضعتها هيئة اليونسكو، لأن طريقة نطق كلماتها “مُشْكِلة”، ولا توجد كلمة فرنسية لا تخلو من حروف عديمة الجدوى، لا ترد في النطق، لأن هجاء الكلمات الفرنسية قائم على أساس تاريخي، ولا علاقة له بالطريقة التي تُنطق بها، وبالمقابل فلو علمت طفلا عربيا أو كمبوديا او بوركينا فاسويا حروف اللغة العربية، ثم طلبت منه أن يكتب “عنبر/ قلم/ سامي”، فإنه سيكتبها على النحو الصحيح ما لم يكن دماغه مصفحا (.مع هذا فالفرنسية هي اللغة الرسمية، بل والشعبية، في 29 دولة معظمها في أفريقيا، ومفردات اللغة اليابانية لا تُكتب كما تُلفظ، وفي النرويج يتكلم كل مواطن (تعداد السكان دون الستة ملايين)  لغة بلده بالطريقة التي تعجبه، بمعنى أنه لا توجد طريقة قياسية معيارية لنطق كلماتها ذات الأصول الجرمانية، وبالمقابل فالفصحى (وليس اللهجات) العربية واحدة نطقا وكتابة، من طنجة إلى المنامة، وهي كذلك لمن يتعلمها من الإندونيسيين والهولنديين والطاشناق، بينما هناك إنجليزية أمريكية وأخرى بريطانية، باختلاف واضح في رسم/ تهجئة الكلمات بينهما، ولو حاول أوربي يزور الدنمرك تعلم لغة أهله، فإنه يصاب بالتهاب الجيوب الأنفية والغدد الليمفاوية وتضخم البروستات، لأن تلك اللغة تتألف من أصوات يصعب على معظم بني البشر الإتيان بها

يا جماعة انظروا حتى إلى الأسماء الشائعة عندنا لتعرفوا كم كان الله كريما معنا عندما خصنا بهذه اللغة: عمر وندى وشهد ومحمد وسوسن وحسن، أسماء سهلة الرسم والنطق، ثم انظروا حال السريلانكيين ولديهم رئيسة (سابقة) اسمها سيراميفوكوماراتونغا باندارانايكا، ورئيس إندونيسيا الأسبق اسمه سوسيلو يوديونو بانغ بانغ!! اسم هذا أم مظاهرة؟ نعم عندنا أسماء “طويلة” مثل السموءل، ولكنها محدودة الاستخدام، وأخرى مثل “عبد ال….”، و”شهاب الدين”، ولكنها مركبة وتتألف من كلمتين سهلتين لكل منهما معنى معلوم

ما من أب أو أم في العالم العربي، إلا وأصابه هوس تعليم أبنائه وبناته الإنجليزية، وذلك عين العقل لأنها لغة أساسية للمعارف والعلوم، ولكن أن يسعى إنسان لإجادة لغة أجنبية بينما إلمامه بلسانه الأصلي، مثل إلمام فيفي عبده بموقع سيناء في الخريطة، فهذا عيب ونقيصة.

جعفر عباس

كاتب صحفي (ساخر)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى