خرجتُ ذات مساءٍ بعد صلاة العصر مُيمِّمًا نحو أحد الأصدقاء من أصحاب الماشية، وقد اعتدْتُ الذهاب إليه في ذلك المكان الذي أقام فيه حظيرة ماشيته خارج الحيِّ السُّكَّاني؛ هواءٌ عليل، وصخَبٌ قليل، وفنجان قهوةٍ أو كوب شايٍ ينفُضُ الكسل والخمول بعد فترة المقيل، وأحاديثُ تجلو الهمَّ الثقيل. رحَّبَ الرجل بمقدمي كعادته، وقام يهيء لنا إبريق الشاي على غير عادته؛ فقد كان يوكل تلك المهمَّة دومًا إلى الراعي الذي كان يعمل لديه. استغربتُ الأمر، وتلفَّتُّ يمينًا وشمالًا فلم أرَ للرَّاعي أثرًا؛ فسألتُ صاحبي عن أمره. التفت إليَّ وهو يكاد يتميَّزُ من الغيظ، وقال: لقد طردتُّه صباح اليوم.
ولِمَ يا صاحبي؟! لقد حَمَلَ عنكَ عبئًا كبيرًا. من أين لك الآن بالبديل؟! ومن الذي سيحرس الماشية في فترة الليل؟!
لم يتأخر جوابه كثيرًا، وأخبرني بأنه لاحظ آثار الجوع على الماشية، وأنه تقصَّى الأمر وراقب، فوجد الراعي يهمل العمل، ويغادر المكان كثيرًا ليُجالِس أبناء جاليته، ويُقصِّرُ في إطعام الماشية والعناية بها، وقد أفسد عليه هذا الأمرُ عملية البيع في الأسواق؛ بسبب الضعف الذي أصاب ماشيته، ثم طمأنني بأنه قد بحث طيلة اليوم فوجد بديلًا محمود الخِصال، وأنه ينتظر قدومه بعد صلاة المغرب.
انتهى الرجل من إعداد الشاي، وأفرغ بعضًا منه في كوبين، وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث طيلة الوقت، لكن في الوقت الذي كان لساني فيه يبادله الحديث كان عقلي مشغولًا بأمرٍ آخر؛ كنتُ أفكِّرِ بأمر الرَّاعي الموجود في داخل كل واحدٍ منا، والرعيَّةِ المسؤول عنها، وكيف أن ربَّ ماشيةٍ حاسب عامله، وعاقبه بسبب تقصيره، فهل سننجو نحن من عقاب الربِّ الذي حمَّلَنا مسؤولية، وأوكل إلينا شؤون رعية؟! هل سينجو أبٌ استرعاه ربُّه أمر الزوجة والأولاد ففرَّط؟! هل سينجو معلِّمٌ استرعاه الله أمر الطلاب فأشغله عن عمله نومٌ أو تجارةٌ؛ فأكثر في التأخر والغياب وأفرط؟! ولو جاءه حسمٌ من المرتَّب في آخر الشهر لاستشاط من مديره غيظًا، وعاتَبَ، وخاصَمَ، وقَطَعَ التحيَّةَ والسلام وشطَّط.
هل سينجو من العقاب امرؤٌ خان الأمانة واستَمْرَأَ الأمان، وتقاضى الأجر كاملًا على عملٍ لم يتَّسِمْ بالجودةِ والإتقان؟! وهل يكون ذلك الأجر الذي يتقاضاه ويدخله بطنه وبطون من يعولهم حلالًا أم سُحتًا ووقودًا – فيما بعد – للنيران؟ ألم يقل ﷺ: (أيُّما جسمٍ نبت من السحت فالنار أولى به)؟
لقد ألهتْنا تصاريفُ الحياة كثيرًا، وأشغلنا جمع المال بشتى الطُّرق عن أمر الحلال والحرام، وعن الحساب والعقاب؛ حتى غفلنا عن قول الحبيب ﷺ: (لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأَلَ عن أربع…. وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)، فأيُّ جوابٍ – بالله عليكم – هيأه كل عاملٍ وكل راعٍ – أيًّا كان عمله وكانت رعيَّتُهُ – لذلك السؤال؟! وهل ستكون شواغله التي أشغلته عن أداء أمانته ناصرةً له، أم شاهدةً عليه؟

0