منذ أكثر من عقد، كانت العلاقة بين مؤشر الدولار الأمريكي وعوائد السندات الحكومية لأجل 10 سنوات تُعد من أقوى المؤشرات التبادلية في الأسواق العالمية. فالمنطق المالي بسيط: ارتفاع العوائد يجذب المستثمرين الأجانب، ما يعني زيادة الطلب على الدولار. لكن ما الذي يحدث اليوم؟ ولماذا انفصلا فجأة؟
الرسم البياني الأخير الذي نشرته صحيفة “فايننشال تايمز” يعرض انفصالًا غريبًا وغير مسبوق: عوائد السندات الأمريكية (باللون الأزرق) تتجه إلى الأعلى، بينما مؤشر الدولار الأمريكي (باللون الأحمر) يتهاوى منذ بداية عام 2025.
ما الذي تغيّر؟
الجواب في السياسة، وتحديدًا في قرارات الرئيس دونالد ترامب، الذي فجّر ما وصفه بـ”يوم التحرير” الاقتصادي بإطلاق حزمة رسوم جمركية شاملة على أغلب الشركاء التجاريين، بما فيهم الحلفاء.
منذ تلك اللحظة، بدأت الأسواق العالمية تتعامل مع العوائد الأمريكية لا كـ”فرصة استثمارية”، بل كـ”إشارة خطر”.
صعود العوائد: هل هو علامة قوة؟
نظريًا، ارتفاع عوائد السندات الأمريكية يعني أن المستثمرين يطالبون بعائد أعلى مقابل الاحتفاظ بالدين الأمريكي.
في ظروف مستقرة، يُترجم هذا بزيادة الثقة في الاقتصاد. لكن في الواقع الحالي، هذا الصعود يُفسَّر كالتالي:
حاجة الحكومة الأمريكية لتمويل عجز ضخم ومتفاقم.
بيع كثيف للسندات من قبل حامليها (ربما الصين أو اليابان)، ما يرفع العوائد.
خوف الأسواق من تضخم مفرط وسياسات اقتصادية غير محسوبة.
لماذا ينهار الدولار؟
هنا المفارقة:
يُفترض أن ارتفاع العوائد يجذب رؤوس الأموال، ويرفع قيمة العملة.
لكن ما يحدث هو العكس: الأسواق تهرب من الدولار.
السبب؟ الرسوم الجمركية أدخلت أمريكا في مواجهة مع الجميع، بما فيهم الحلفاء. هذه السياسات تُضعف الثقة بالدولار كعملة ملاذ، وتُشعل المخاوف من أزمة سيولة دولية.
نقطة التحوّل: لحظة الانفصال
الرسم البياني يُظهر توافقًا تامًا بين الدولار والعوائد خلال 2023 و2024، ثم فجأة، مع بداية 2025، تنفصل الخطوط.
العوائد تواصل الصعود بسبب الضغوط التمويلية.
الدولار ينهار بسبب خروج رؤوس الأموال وفقدان الثقة.
الرسالة الأعمق للأسواق العالمية
هذا الانفصال يُعد بمثابة “إنذار أحمر” للنظام المالي العالمي. فإذا كان الدولار لم يعد يسير مع العوائد الأمريكية، فهذا يعني أن النظام التقليدي الذي حكم الأسواق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بدأ يتفكك فعليًا.
هل انخفاض الدولار هدف استراتيجي لترامب؟
ربما، فهناك من يرى أن هذا الانهيار ليس عرضًا جانبيًا، بل جزء من استراتيجية خفية لدى ترامب، تقوم على:
دعم الصادرات الأمريكية: انخفاض الدولار يُعيد الصناعات الأمريكية إلى المنافسة العالمية بأسعار أرخص.
تقليص العجز التجاري: الواردات تصبح أغلى، والصادرات أكثر جذبًا.
تشجيع الاستثمار المحلي: الدولار الضعيف يُحفز المستثمرين على الإنتاج داخل أمريكا.
لكن هذه المقاربة محفوفة بالمخاطر:
أمريكا بلد مستورد ضخم، والدولار الضعيف يزيد التضخم.
الديون الأمريكية بالدولار، وإذا فقد المستثمرون الثقة، ستُصبح السندات عبئًا ثقيلًا.
تهديد مركزية الدولار عالميًا، خاصة مع صعود اليوان الرقمي.
ختاما: هل نحن أمام إعادة تعريف للملاذ الآمن؟
في ظل هذا التناقض، تتجه الأنظار نحو أدوات جديدة:
العملات الرقمية السيادية مثل اليوان الرقمي.
الذهب والسلع.
وربما – للمرة الأولى – أدوات تسوية تجارية لا تمر عبر الدولار.
ما يحدث الآن ليس مجرد انفصال بين خطين بيانيين، بل إعادة رسم للخريطة المالية للعالم.
الأسواق لا تُخطئ في قراءتها… وهي الآن تقول بصوت واضح: هناك شيء أكبر من السياسة النقدية يحدث. والدولار، لأول مرة منذ عقود، في موقف دفاعي لا يحسده عليه أحد.