المقالات

الاستماع القرآني: من التلقي إلى التغيير

السماع الواعي للقرآن الكريم وأثره في الخشوع والتحول النفسي: تأملات قرآنية

المقدمة

أنزل الله القرآن كتاب هداية، لا تقتصر وظيفته على التلاوة اللسانية، ولا على الحفظ الذهني، بل هو خطاب شامل للإنسان قلبًا وقالبًا، وعقلًا وروحًا. ولئن كانت التلاوة من شعائر الإسلام الظاهرة، فإن الاستماع له بإنصات وحضور قلب هو أحد مفاتيح التأثر به، وسبيل من سبل تحوّل الخطاب القرآني من نص مسموع إلى أثر محسوس.

لقد حثّ القرآن على الاستماع، وربط هذا الفعل بالرحمة والهدى والخشوع، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204]، فبيّن أن التلقي لا يكتمل بمجرد السماع، بل لا بد معه من الإنصات الذي يقتضي التركيز والانتباه، ثم ختمها بالرجاء في الرحمة، مما يدل على أن الإنصات وسيلة إيمانية تؤثر في النفس وتُهيئها لقبول الهداية.

غير أن المتأمل في واقع المسلمين اليوم يجد أن ثقافة الاستماع القرآني قد غابت أو ضعفت، حيث طغت أشكال ظاهرية للقراءة الجماعية، أو السماع المجرد عبر الوسائط التقنية، دون أن يصحبها شهود قلبي أو وعي تدبري، فيغيب بذلك المقصود الأسمى من التنزيل، وهو أن يُغيّر السامعُ حاله ويزكّي نفسه، ويُخضع قلبه، كما كان شأن أهل العلم والإيمان حين يُتلى عليهم القرآن، فيخرّون للأذقان سُجّدا، وتفيض أعينهم من الدمع، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾ [الإسراء: 107]، وقوله: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾ [المائدة: 83].

في هذا المقال، نحاول استكشاف أثر الاستماع الواعي للقرآن في التغيير الإيماني والروحي، مستندين إلى نصوص القرآن الكريم التي قرنت السماع بالخشوع والتأثر، ومُتأملين في النماذج القرآنية التي جسّدت هذه المعاني، لنصل إلى توصيات عملية تُعيد إحياء هذه الفضيلة القرآنية في حياتنا المعاصرة.

أولًا: الاستماع في ضوء النصوص القرآنية

يرتبط فعل الاستماع في القرآن الكريم غالبًا بالمقامات الإيمانية العليا، ولا يُذكر مجردًا عن معاني الانتباه، والوعي، وحضور القلب. والقرآن يفرّق بين من يسمع السماع الظاهري، ومن يُلقي السمع وهو شهيد، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37]. فالشرط هو القلب الحي، والسماع الحاضر، والشهود الواعي.

وقد جاءت آيات كثيرة تؤكد أن الاستماع الحق للقرآن يثمر الخشوع والبكاء والخضوع، ومن ذلك:
• قوله تعالى في سورة المائدة (83):
﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾
فالآية تصور لحظة إنصات ويقظة قلب، يُثمران بكاءً صادقًا نابعًا من التعرف على الحق لا من مجرد التأثر الوجداني المؤقت.
• قوله تعالى في سورة الإسراء (107-109):
﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ… يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا… وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ﴾
وهذه صورة راقية للعلماء الربانيين حين يستمعون للقرآن، لا يتمالكون أنفسهم من شدة الخشوع، فيخرّون سجّدًا وبكاءً، دلالة على عمق التلقي وتأثير السماع.
• قوله تعالى في سورة الزمر (23):
﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ﴾
وهذا وصف حيّ للحظة التلقي القرآني حين يكون السماع موصولًا بالخشية، فيقشعر الجلد ثم يلين القلب.

ثانيًا: البكاء القرآني وخشوع السماع

المتتبع لآيات البكاء والخضوع في القرآن يلاحظ أنها لا ترتبط كثيرًا بمجرد القراءة، وإنما تظهر في سياقات الاستماع والتلقي، مما يرسّخ أن السماع الواعي أكثر تأثيرًا من القراءة المجردة، لا سيما حين يكون السامع في مقام التلقي الخالص والإنصات الكامل.

فالاستماع لا يقتصر على إدراك الصوت، بل يتضمن حضورًا شعوريًا وروحيًا، يُحدث في النفس أثرًا عميقًا، كما قال تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر: 17-18].

ومن شواهد السيرة النبوية على هذا المعنى، ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حين طلب من ابن مسعود أن يقرأ عليه القرآن، فلما بلغ قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ…﴾ قال له: حسبك، فإذا عيناه تذرفان.

ثالثًا: الاستماع وسيلة إلى الإيمان والتغيير

كان القرآن ينزل ويُتلى، فيسمعه الصحابة فيتغيرون، ويسمعه أهل الكتاب فيخشعون، بل يسمعه حتى المشركون سرًا، كما في قصة اجتماعهم خلف جدار بيت النبي صلى الله عليه وسلم في الليل ليستمعوا إليه.

ومن أبرز النماذج القرآنية:
• موقف النجاشي حين سمع القرآن من جعفر بن أبي طالب، فبكى حتى أخضلت لحيته.
• موقف الوليد بن المغيرة حين سمع القرآن وتأمل بلاغته، فانبهر، رغم كفره.
• موقف الجنّ في قوله تعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ… فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا﴾ [الأحقاف: 29].

كلها مواقف تؤكد أن الاستماع الخاشع للقرآن يفتح باب الإيمان، ويُحدث في النفس تحولًا حقيقيًا.

رابعًا: غياب الاستماع الواعي في واقع المسلمين

مع اتساع الوسائل التقنية، وتكرار التلاوات الجماعية، وحرص كثيرين على ختمات لا يصحبها تدبر، أصبح السماع القرآني أقرب إلى العادة منه إلى العبادة. كما أن انشغال القلب أثناء السماع، وغياب مقام الشهود الداخلي، يجعل التلقي القرآني فارغًا من أثره.

يحتاج المسلم اليوم إلى إحياء خلوته مع القرآن سماعًا وتدبرًا، لا سيما أن السماع الصامت الفردي يفتح أفقًا واسعًا للتأمل، ويُعين على الخشوع أكثر من المشهد الجماعي المعتاد.

الخاتمة والتوصيات

القرآن لم يُنزل للتلاوة فحسب، بل أنزل ليُسمع ويُتدبر ويُتّبع. ومن أعظم أبواب التأثر به: الاستماع الواعي الخاشع، الذي يجعل السامع في مقام من يخاطبه الله مباشرة، فيذوب كيانه بين يدي الخطاب الإلهي.

ولذلك نوصي بما يلي:
1. إحياء فضيلة الاستماع الفردي للقرآن بخشوع، في لحظات صفاء القلب.
2. تعليم الناس آداب الإنصات القرآني، وربطه بمقام التزكية والرحمة.
3. تشجيع المجالس الأسرية التربوية لسماع القرآن وتدبره جماعيًا.
4. الانتقال من ثقافة “ختم القرآن” إلى ثقافة “الخشوع بالقرآن”.
5. ربط الآيات المؤثرة بالواقع الشخصي للمستمع ليستشعر مخاطبة الله له.

وفي الختام، فإن استماعنا للقرآن هو شهادة على قلوبنا، فإن كنا أهل صدق، سُجّل لنا عند الله من أهل الذكر، كما قال تعالى:
﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾،
وهو تذكير لا يُجدي إلا إذا سبقه إلقاء للسمع، وكان المستمع شهيدًا.

د. فايد محمد سعيد

عضو المجلس الأوروبي للقيادات المسلمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى