المقالات

تعليل كذبة أبريل

في الأول من إبريل من كل عام، وكعادة بعض وجهات العالم، يستيقظ أصحابها على اتفاق غير مكتوب، يتواطأ فيه البشر على خداع بعضهم، وإلى خارج إطار الحقيقة ليوم أو بعض يوم، ليصبح الكذب مسموحًا، بل مرحبًا به، مغلفًا بروح الدعابة، ومتذرعًا بأن الأمر “مجرد مزحة” لكن خلف هذا الطقس السنوي العابر، تكمن دلالة فلسفية عميقة عن هشاشة علاقتنا بالحقيقة، وكيف يمكن للإنسان أن يتخلى عن أقدس ما يملكه — صدقه — في سبيل لحظة عابرة من المرح المصطنع.

الكذب، في جوهره، ليس مجرد قولٍ مخالف للواقع، بل هو إعلان ضمني بأن الحقيقة لم تعد جديرة بالاحترام وفي كذبة إبريل، تنكشف هذه الهشاشة بطريقة جماعية، وكأن العالم يجرّب، ولو ليوم واحد، أن يعيش في مساحة رمادية لا سلطان فيها للصدق المشكلة ليست في المزاح، بل في فكرة تطبيع الخداع تحت أي ذريعة، فحين نختزل الكذب في “مزحة إبريل”، فإننا نعلّم أرواحنا أن الحقيقة يمكن أن تكون خفيفة، عابرة، مؤقتة، وقابلة للتعطيل.

ثمة بُعد روحي عميق يغفل عنه كثيرون في هذا الطقس السنوي، إذ إن الكذب، كما وصفته النصوص القديمة، تشوّه في الروح قبل أن يكون خطأً في اللسان حين يكذب الإنسان، فهو أول من يسمم وجدانه قبل أن يخدع الآخرين، لأنه حين يعتاد لسانه على مخالفة ما في قلبه، يصبح قلبه تدريجيًا غير معني بالتماهي مع الحق، وهنا تكمن المعضلة في أن تكون متصالحًا مع خداع الآخر، أي أن ثمة جزءًا في داخلك لم يعد موقرًا للحقيقة.

لو تأملنا الطقوس البشرية القديمة، لوجدنا أن الصدق قيمة مقدسة، لا تخضع للمساومة، واللسان مرآةً للنية وكلما تطور الإنسان المعاصر، تضاءلت قدسية الكلمة، حتى بات يخصص يومًا للسخرية من أصدق ما فيه.

في كل سواد ثمة بياض يلوح، أو ربما جنين يوشك أن يولد في كل تلك المتشابهات، ليعلن عن نفسه باستثنائية وهذا ما نحاول أن نخرجه، أو لعلنا نتعاون في إخراجه من خلال تبنّي المستفاد من تلك التجربة، وأول ما يُستفاد معرفة الوجه المظلم لانعدام الحقيقة ورغم أن التجربة عارية من الجدية والحقيقة، يمكن أن تشي ببعض ما يجنيه الكذب في هذا العالم، وكلما رُفع سقف جريمة الكذب، ارتفع سقف الأثر، وتعاظم الخطر، وخرج الأمر إلى استباحة الظلم كعنوان، والافتراء كقانون.

إن ما نحتاجه ليس أن نكون جادين على الدوام، بل أن نحترم صدق أرواحنا، وندرك أن الكلمة ليست مجرد صوت يخرج، بل أثر يبقى.

كذبة إبريل ليست مجرد مزحة… إنها مرآة تسألنا في صمت: كم بقي من صدقك فيك.

رياض بن عبدالله الحريري

كاتب وصانع محتوى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى