المقالات

واغتربت مُكرهاً لا بطلاً

بعد الزواج بأشهر ستة، حبلت زوجتي بطفلنا الأول، فانقسم عقلي الى شطرين، اليساري منه يقول: خليك راجل وتحمل المسؤولية ودبِّر أمورك وأمور الطفل المرتقب، زيك وزي بقية خلق الله حولك، والشطر اليميني يقول: بلاش هبل وكلام عاطفي. الحمل يعني زيارات متكررة لعيادات أمراض النساء والولادة، والانجاب يعني البامبرز والتطعيم والحليب الاصطناعي، وهجر أطباء أمراض النساء والولادة الى أطباء الأطفال لعلاج السعال والإسهال.

في زيارة للطبيب المختص طلب من زوجتي إجراء فحوصات اتضح ان كلفتها ستون جنيها!! وات؟ ستون جنيها؟ سيكستي باوندس؟ نو بروبليم. مفيش مشكلة. أبيع الثلاجة والسرير والساعة؟ ولكن ذلك نوع من “الطلاق”! المهم أنني وعند هذه النقطة فكرت في الهجرة، لأن الحكاية لن تتوقف عند طفل واحد، ولحسن حظي كان مكتب الأمم المتحدة في الخرطوم قد أعلن عن حاجة المنظمة الدولية لمترجمين، وذهبت إلى مكتب المنظمة وتسلمت أوراق التقديم لوظائف المترجمين، وتوجهت الى مكتب صديق في مبنى محافظة الخرطوم،كان يبعد أمتارا قليلة عن مكتب المنظمة الدولية لملء الأوراق، وفجأة قال صديقي: بالمناسبة شركة أرامكو فتحت مكتب توظيف في العمارة الملاصقة لنا، فلماذا لا تقدم أوراقك لديها أيضا؟ وفرغت من تعبئة أوراق الأمم المتحدة، وحملتها معي الى مكتب أرامكو، وقابلت هناك مدير المكتب الذي قال لي إن هناك حاجة ماسة لمترجمين في أرامكو، وسألني عن الموعد الذي يناسبني للجلوس للامتحان فقلت له: هسع (ومعظم السودانيين لا يعرفون ان الكلمة اختصار لعبارة “ها الساعة”)، باعتبار أنه ما من كائن يستطيع ان “يذاكر” لامتحان ترجمة. وفرغت من اختبارين في نحو ثلاث ساعات. وعندها كان مكتب الأمم المتحدة قد أغلق أبوابه، فحملت أوراق الترشح لوظيفة مترجم دولي، الى البيت ونسيت أمرها. وبعد اسبوع بالضبط تلقيت اتصالا من مكتب أرامكو: نجحت في الامتحان وهات جواز سفرك كي تسافر في أقرب وقت ممكن، وهكذا بدأت رحلة اغترابي ولم أعد حتى الآن إلى وطني، إلا كزائر عابر.

ما أن أبلغني مكتب التوظيف التابع لشركة أرامكو النفطية في السعودية باختياري مترجما لديها حتى أجهشت بالبكاء، بكيت نوع البكاء الذي يسميه السودانيين “جِعير”، وهو البكاء المصحوب بالنشيج المدوي، كان بكاء حزن عميق، بكيت على نفسي: إيه يا دنيا. كيف يهون عليك ترك زوجة لم تعش معها أكثر من ستة أشهر،وفي بطنها طفلك في شهره الأول؟ كيف يهون عليك فراق السودان أحب بلاد الدنيا إلى نفسك. وما أن أبلغت زوجتي بنبأ فوزي بوظيفة في أرامكو حتى تهلل وجهها منشرحا، ولكن ما أن قلت لها إنهم يريدون مني ان أسافر إلى الظهران في أقرب وقت، وأنني سأسافر بدونها لأرتب أمور استقدامها، حتى انفجرت بالعويل والنحيب: ملعون أبو الفلوس. وتحولت غرفة النوم الى  بيت عزاء لعدة أيام، وظل مكتب التوظيف يلاحقني كي استكمل إجراءات السفر. ثم غالبنا الحزن وجلسنا نفكر في الأمر بـ”عقلانية” وقررنا أنه من الخير لنا ولعيالنا المنتظرين أن أجد عملا في بلد يكفل لنا مستوى معيشيا أفضل، وكان الراتب المعروض علي في وظيفة “أخصائي ترجمة” 4821 ريالا، ولم يكن قد سبق لي قبلها التعامل مع الآلاف في دنيا المال، وهكذا حزمت حقائبي وركبت الطائرة.

في مطار مدينة الظهران حيث المقر الرئيسي للشركة العملاقة، استقبلني موظف من إدارة العلاقات العامة، ليوصلني الى مسكني المؤقت، ثم أعطاني مظروفا بداخله 3000 ريال، أول ما خطر ببالي هو أن أعود فورا الى السودان لاستمتع بتلك الثروة التي نزلت عليّ من السماء، ولكنني فوجئت بأن الرحلات من مطار الظهران الى السودان مرة واحدة في الأسبوع، وما أن أوصلني الرجل إلى غرفة أنيقة في معسكر صغير حتى أجهشت بالبكاء مرة أخرى: تذكرت السودان والأهل والأحباب: بيني وبينك تستطيل حواجزٌ، جزرٌ/ وينهض ألف باب.. ما زال سقف أبي يظل/ ولم تزل أحضان أمي رحبة المثوى مُطَيَّبَة الجناب،

ثم أنظر الى الآلاف الثلاثة وازداد حزنا: آآآخ لو أستطيع ارسالها برقا أو جوا الى زوجتي كي تحس بالطفرة الطبقية. لعلها تنسيها آلام الفراق. كان حالي يومها كحالي يوم ذهبت الى المدرسة المتوسطة وعمري 11 سنة لأدرس وأقيم فيها بعيدا عن أهلي، فظللت أبكي طوال أشهر.

وخرجت من الغرفة لأتعرف على المنطقة المحيطة بمكان السكن،ووجدت قاعة طعام مفتوحة وهناك رأيت “زولين”. هناك شعوب كثيرة سمراء وسوداء، ولكنني أتمتع بحاسة كلب بوليسي في التعرف على السودانيين. ذات مرة كنت في مبنى وزارة الخارجية الإماراتية لتوثيق شهادات، واقتربت من أحد الواقفين في الطابور وقلت له: ممكن قلمك يا زول.. ابتسم صاحبنا وسألني: ولماذا افترضت أنني “زول”؟ كان سؤاله وجيها، فقد كان ذا بشرة فاتحة جدا، كان من الممكن ان يكون مصريا او شاميا، ولكنني أحسست بأنه سوداني! كيف؟ لا أعرف!! وقد اتضح ان الرجل فعلا سوداني ولكنه كان قبطيا أي من أصل مصري. ربما هي جينات حب كل من وما هو سوداني تلك التي تجعلني أتعرف على السوداني وسط جيش من السمر والسود، وحتى ذوي البشرة الفاتحة من مختلف البلدان

المهم تعرفت على الزولين في قاعة الطعام وسألتهما عن طريقة تحويل النقود الى السودان، ولحسن حظي كان أحدهما مسافراالى الوطن في اليوم التالي، وسلمته ألفي ريال ليوصلها الى زوجتي، وكان ذلك المبلغ يساوي وقتها نحو 500 جنيها سودانيا. (اليوم يساوي الريال السعودي 700 جنيها. والجنيه عزيز قوم ذُل).

ظل يحز في نفسي أن أقضي معظم سنوات عمري خارج وطني، ثم اشتعلت الحرائق في الوطن قبل عامين، وصرت محسودا لوجودي خارج الوطن.

جعفر عباس

كاتب صحفي (ساخر)

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مقال فيه من اللذة ما يشعر العقل بالنهم .. نَفس سوداني استشعرناه في روح السودانيين العذبة وفي روايات الطيب صالح .. حفظ الله السودان والسودانيين الأشراف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى