المقالات

بين أعذب الشعر وأكذبه وأغربه

من يتذوّق الشعر الفصيح أو الغنائي؟ هل هو الشاعر؟ أم المتلقي؟ أم من هم في نفس المجال؟
مع أنه من الشائع أن من يحسدك هو من في نفس مجالك، إلا أني أرى أن المتلقي هو أكثر من يستمع ويتذوّق، بل هو من يبحث حتى يجد من يُترجم مشاعره. فلو كان يُحسن نظم القصيد، لربما كتب أجمل الشعر في أبهى صوره.

أما الشاعر، فيهتم بأن يقول العذب من الكلام، ولكن ليس كل ما يتمنّى الشاعر يدركه، فقد تأتي المخيّلة بما لا يشتهي القلم.
وأما من هو في نفس المجال، فكل همه أن يجد هنا أو هناك “هَنّة”، ليقول: “آن للناقد أن يمد قلمه!”
لكن هناك من يبحث عن مكامن الجمال ليستمتع بها، فعنده كفة الإيجاب ترجح على كفة السلب.

ونظرة إلى أعذب الشعر، قال المتنبي:

أَرَقٌ عَلى أَرَقٍ وَمِثلِيَ يَأرَقُ
وَجَوىً يَزيدُ وَعَبرَةٌ تَتَرَقرَقُ
جُهدُ الصَبابَةِ أَن تَكونَ كَما أَرى
عَينٌ مُسَهَّدَةٌ وَقَلبٌ يَخفِقُ
ما لاحَ بَرقٌ أَو تَرَنَّمَ طائِرٌ
إِلّا اِنثَنَيتُ وَلي فُؤادٌ شَيِّقُ
جَرَّبتُ مِن نارِ الهَوى ما تَنطَفي
نارُ الغَضى وَتَكِلُّ عَمّا تُحرِقُ
وَعَذَلتُ أَهلَ العِشقِ حَتّى ذُقتُهُ
فَعَجِبتُ كَيفَ يَموتُ مَن لا يَعشَقُ

وقد قيل: “أعذب الشعر أكذبه”، وقيل أيضًا: “أجود الشعر أصدقه”، وهناك رأي أن غاية الشعر “التعجيب”.
ومن أكذب أبيات الشعر التي قالها العرب:

بعيني رأيت الذئب يحلب نملةً،
ويشرب منها رائبًا وحليبًا.

لكن المبالغة، حتى في المدح، قد تصبح ممجوجة.
قال أبو نواس:

وأخفتَ أهل الشرك حتى إنهُ
لتخافك النطفُ التي لم تُخلقِ

بعض النقاد والمخضرمين في الشعر يرون أن استخدام ألفاظ مثل “كاد” و”لو” و”أحسب” عند المبالغة وغيرها، للتقريب من الواقع، أوقع.
مثل قول البحتري:

أتاك الربيعُ الطّلقُ يختالُ ضاحكًا
من الحُسنِ حتى كاد أن يتكلّما

وبعضهم بالغ في صناعة الشعر، فجعله على محملين، كقول الشاعر:

حلموا فما ساءت لهم شيمٌ
سمحوا فما شحّت لهم مننُ

فإذا قرأته كما كُتب، فهو مدح، وإذا قرأته بالعكس، فهو ذم.

أما في الهجاء، فيُروى أن أبا دُلامة طُلب منه أن يهجو أحد الحاضرين، وكانوا من علية القوم، فخشي عاقبة ذلك، فهجا نفسه، وقال:

ألا أبلغ إليك أبا دُلامة
فليس من الكرام ولا كرامة
إذا لبس العمامة كان قردًا
وخنزيرًا إذا نزع العمامة
فإن تك قد أصبتَ نعيم دنيا
فلا تفرح فقد دنت القيامة

والشعر أحيانًا يكون للتفكّه شكلًا، وللنَّيل من الآخر ضمنًا.
يُذكر أن شوقي وحافظ إبراهيم كانا في إحدى جلسات السمر، فقال حافظ:
“يقولون إن الشوق نار وحرقة، فما بال شوقي أصبح باردًا؟”
فرد عليه شوقي:
“استودعت إنسانًا وكلابًا أمانة، فضيّعها الإنسان، والكلب حافظ!”

وهكذا، فالشعر يتنوّع، ولا يخلو من تفاصيل الحياة، فمن العاطفي، إلى المدح والهجاء، ولكل مريديه ونابذوه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى