المقالات

«عربجي الصحافة»

مرت على الصحافة العربية أسماء كبيرة من الأدباء والمفكرين والمثقفين، ممن كتبوا ليُنيروا العقول لا ليحرقوها، ونقلوا المعرفة لا المهاترات، وشكلوا عبر أعمدتهم مدارس فكرية صنعت القارئ قبل أن تخاطبه، وارتقت بذائقة الجمهور قبل أن تخاطب غرائزه.
لكن على هامش هذا النور، لا بد أن نشير إلى الظلال… إلى ظاهرة “عربجية الصحافة”.

من هو عربجي الصحافة؟

العربجي – لغةً – هو من يقود العربات دون التزام، ويُعرف في بعض البيئات بأنه من لا يقيم للأنظمة وزنًا، ولا يعرف للذوق مسارًا، ولا يضبط لسانه أو يترفع عن السوقية.
أما عربجي الصحافة، فهو من يتخذ من الصحافة سلوكًا فوضويًا وأسلوبًا للتنمّر والإساءة. جعل من الكلمة سوطًا لا رسالة، ومن المنبر وسيلة لتصفية الحسابات، لا بوابة لرفع الوعي.

• عربجي الصحافة لا يكتب ليضيف، بل ليؤذي، ويجرح، ويستعرض.
يرى في النقد فرصة للثأر، وفي “المانشيت” ساحة استعراض عضلات، يهوى التسول الإعلامي حينًا، والتنمّر حينًا آخر، يصطاد أخطاء الآخرين بعدسة مشوهة، ليعلّق عليها بغرض تحقيرهم، لا تصحيحهم.

ومع دخول فصل الصيف، لا تعجب إذا انطلقت تغريداته بعبارات تتطاير شررًا، كمن ضربه الحر فجأة فانفلتت أعصابه.
يبدأ ببذاءة التوصيف، وسوء التعبير، وغياب المنطق. يُشبه في خروجه إلى الضوء بـ”الحُسيل الخارج من السفل”، مترنحًا لا يعرف جهة النور، لأنه ببساطة ألف العيش في الظلام، ولم يكن يومًا شعلة تنوير في مجتمعه، بل كان دائمًا حمولة زائدة على ظهر الكلمة.

• عربجي الصحافة هو ذاكرة مثقوبة.. ولسان مسموم، ناكر للجميل، يعض اليد التي صعد بها، ينتقد الوطن الذي رعاه، والمجتمع الذي احتواه، كجحش يركل من ربّاه، أو ثورٍ انتفخ بغير نفع.
يخوض في الأعراض، يسيء للرموز، يتغذى على التشكيك، ولا يعرف للنقد الموضوعي معنى.

النظام؟ لا يعرفه
التعليمات؟ لا يقرأها
الأخطاء؟ يكررها بلا خجل
الذوق؟ يتجاوزه بلا مبالاة
النزاهة؟ شعار يسخر منه
أخلاقيات المهنة؟ عُرف لم يمر به يومًا.

ختامًا
الصحافة مهنة حُرّاس الحقيقة، لا عابثي السمعة. وهي حرفة من لا يُساوم على قِيَمِه، لا وسيلة من يستخدمها كمنصة للشتائم أو كبوق للمتسولين.
ولذا، فإن المجتمعات الواعية لا تُنصت لعربجي، مهما علت صرخاته، ولا تحتفي بمن حوّل المهنة إلى “سوق مزايدة أخلاقية”، بدلاً من أن تكون ساحة ضمير ومسؤولية.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. لكونها مهنة الشرفاء، ولكن الاضواء تلمع حولها فهذي بالتالي مثل طبق الحلويات الذي يجذب الذباب والناموس فتحدث الفوضى، ورغم ذلك، يظل القلم الملتزم والفكر المتزن ووسيلة الطرح العقلانية عصية على العربجية.

  2. بكل ما في الكلمة من تقدير وإعجاب، أقف احترامًا أمام هذا المقال البديع “عربجي الصحافة”، الذي نسج الاستاذ عبدالله بحروفه وشموس بيانه مرآة صادقة لحالٍ يُؤسف له في ساحة الإعلام العربي، حين يُساء استخدام الكلمة وتُبتذل المنابر.
    لقد تميزت – قولاً وأسلوباً- حين اخترت موضوعًا بالغ الحساسية، تلامس به ضمير القارئ النقي، ووجدان كل من لا يزال يرى في الصحافة رسالةً لا تجارة، وميثاقًا أخلاقيًا لا ساحةً للابتذال. تناول بجرأة الأدب، وبلُغةٍ تتوهج فكرًا ونُبلاً، ظاهرةً تمادت حتى كادت تعكر صورة الحرف النزيه، وتغتال المعنى الشريف للمهنة.
    امتاز مقالك بجزالة اللغة، وسمو التعبير، وغِنى الصور البلاغية التي لا تُسرف في التزويق، بل تخدم الفكرة وتشدّ المتلقي إلى جوهر القضية. فكانت كلماتك سهامًا ناعمة في ظاهرها، حادّة في مقصدها، وضّاءة تفضح عتمة “العربجية” المتوشحة بثوب الصحافة زورًا.
    وليس أجمل من وصفك البديع للعربجي بـ”الحُسيل الخارج من السفل”، وهي استعارة مدهشة اختزلت في سطرٍ واحدٍ مسيرة من التطفل والانحدار، فجعلت القارئ يرى المشهد لا يقرؤه فحسب.
    تحية لك … لم تكتفِ بتشريح العلّة، بل دعوة – بضمير الحرف – إلى إحياء القيم الأصيلة، واستعادة هيبة الكلمة وصون قداسة المنبر. فقد كتب بلسان من آمن أن الصحافة حراسةٌ للحقيقة، لا حرابةٌ للكلمة، وبيّن أن من يسيء للمهنة لا يعيبه جهله فقط، بل عاره الذي يتركه على وجه المهنة كلما “نطق”.
    لله درك استاذ عبدالله ، فقد كنت قلمًا حرًا لا يُساوم، وصوتًا عاقلًا في زمن الضجيج.

    بكل ودّ تقبل مروري
    جمعان البشيري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى