لطالما كانت الأنساب العربية مرآة تعكس عمق التاريخ وروح الحضارة وامتداد الأصالة. ومن بين القبائل التي تركت بصماتها في صفحات المجد تأتي قبيلتا غامد وزهران، وهما من أعرق القبائل العربية ذات الامتداد التاريخي العميق والجذور الراسخة في الجزيرة العربية. تنتميان إلى أزد شنوءة، أحد فروع الأزد القحطانية، ويجمعهما النسب الأصيل، مع تفرد كل منهما بشخصيتها وإنجازاتها عبر التاريخ. منذ ما قبل سيل العرم سنة 115 قبل الميلاد، كانت لهما جذور ضاربة في أعماق التاريخ العربي، وحضور بارز في ميادين السياسة، ومساهمة جليلة في بناء الحضارة، إذ امتزجت الفروسية بالبلاغة، والشجاعة بالحكمة، والإيمان بالعلم، حتى أصبح اسمهما رمزًا للقوة والمجد والنقاء العرقي والفصاحة اللغوية. وقد وثقت مؤلفات مثل كتاب الأنساب وتاريخ الأزد أصولهما وأثرهما في تحولات التاريخ العربي قبل وبعد الإسلام.
ينحدر زهران بن كعب وابن أخيه غامد بن كعب من مأرب، عاصمة سبأ، وكانا معاصرين للملك الأزدي عمرو بن عامر مزيقياء، الذي قاد هجرة الأزد الكبرى بعد انهيار سد مأرب. ومع تفرق بطون الأزد، استقرت قبيلتا غامد وزهران في سراة الحجاز، وتحديدًا في مناطق الباحة وبلجرشي والمندق والمخواة، حيث شكلوا قوة اجتماعية واقتصادية وسياسية متماسكة ومؤثرة. وقد عرفت القبيلتان بكرمهما وقوتهما ومنعتهما. وتندرج غامد وزهران تحت مسمى أزد شنوءة، وهي تسمية تحمل دلالات الترفع عن الدنايا والسمو بالأخلاق والمروءة، وتشمل قبائل أخرى كدوس وبارق وبلحارث والنمر بن عثمان، مما يدل على التماسك الثقافي والاجتماعي الذي ساهم في الحفاظ على هوية العرب الأصيلة، كما أكد ذلك مؤرخو الجاهلية والإسلام، ومن بينهم ابن جرير الطبري وحمد الجاسر.
تحمل أسماء القبيلتين معاني لغوية عميقة، فزهران مشتقة من الجذر “زَهَرَ”، الذي يدل على الضياء والجمال والنقاء، مما يعكس طبيعة القبيلة التي اشتهرت بالتألق والمكانة الرفيعة بين العرب. أما غامد، فهي مأخوذة من “الغَمد”، أي الغطاء والستر، وسمي بذلك لأنه تغمّد شرًّا كان بين قبيلتين، كما جاء في قوله: تغمدت شرًّا كان بين قبيلتي فأسماني القيل اليماني غامدا.
وقد حظيت قبائل الأزد عمومًا بمكانة مرموقة في الإسلام، ووردت أحاديث كثيرة تثني عليهم، ومنها ما رواه الطبراني في المعجم الكبير: الأزد أسد الله في الأرض، يريد الناس أن يضعوهم ويأبى الله إلا أن يرفعهم. ولم تكن هذه الصفات مجرد كلمات عابرة، بل كانت انعكاسًا لحقيقتهم، فقد امتازوا بالصدق والكرم والشجاعة والوفاء والقوة في الحق والحكمة في القيادة، مما جعلهم يكسبون احترامًا ومكانة رفيعة في المجتمع الإسلامي. وتشير مصادر مثل ديوان الأنساب وسير أعلام النبلاء إلى أن تأثيرهم لم يقتصر على السرد البطولي، بل امتد إلى شتى ميادين الحياة الثقافية والعسكرية والسياسية.
لعبت قبيلتا غامد وزهران دورًا بارزًا في خدمة الإسلام منذ وقت مبكر، حيث دخل كثير منهم في الإسلام على يد الصحابي الجليل الطفيل بن عمرو الدوسي، الذي قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة فأسلم، ثم عاد إلى قومه داعيًا، فأسلم عدد كبير منهم، ومن بينهم الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه، الذي أصبح راوية الإسلام وأكثر الصحابة ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم. أما غامد، فقد وفدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وأعلنوا إسلامهم، وكان لهم دور مشرف في الدفاع عن العقيدة والمشاركة في الفتوحات الإسلامية، إذ قاتلوا ببسالة في جميع المعارك والحروب، وشاركوا في حروب الردة ضد المرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الفتوحات الكبرى في الشام وفارس ومصر والأندلس، وكانوا من أعمدة الجيوش في معارك اليرموك والقادسية ونهاوند.
وخلال الدولة السعودية الأولى، كان لرجال غامد وزهران حضور بارز، إذ وقفوا مع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وساندوا الإمام محمد بن سعود، وكان من أبرز قادتهم الأمير بخروش بن علاس الزهراني، الذي تصدى للدولة العثمانية بشجاعة نادرة ودافع عن الدولة السعودية الأولى في الحجاز. ومع تطور الدولة السعودية الحديثة، برز أبناء غامد وزهران في القيادات المدنية والعسكرية، حيث تبوأوا مناصب قيادية في الدولة وساهموا في تطوير المملكة والدفاع عنها والمشاركة في ملاحمها، وأصبحوا جزءًا أساسيًا في التكوين الوطني السعودي.
أما في مجال اللغة، فقد وصفهم أئمة اللغة العربية بأنهم من أفصح الناس، إذ كانت لهجتهم أقرب إلى اللغة الفصحى، حتى قال عنهم أبو عمرو بن العلاء: أفصح الناس أهل السراة. كما كان لهم أثر واضح في تراث الأدب العربي، ويظهر ذلك في مؤلفات الخليل بن أحمد الفراهيدي وابن دريد، اللذين يعدان من أعلام النحو والأدب.
وقد أنجبت القبيلتان شخصيات بارزة عبر التاريخ، فمن زهران كان هناك جذيمة الأبرش الدوسي، ملك العراق والحيرة قبل الإسلام، والجلندي بن المستكبر، ملك عمان الذي أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة، راوية الإسلام، والطفيل بن عمرو الدوسي، والخليل بن أحمد الفراهيدي، واضع علم العروض، وابن دريد، إمام اللغة والأدب. ومن غامد برز جندب بن كعب الغامدي، وجندب بن عبد الله الغامدي، وعبد الله بن عفيف الغامدي، أحد أبطال معركة كربلاء، ومخنف بن سليم الغامدي، القائد الإسلامي البارز، وسفيان بن عوف، الذي شارك في حروب الشام وحصار القسطنطينية.
وقد تركزت مواطن غامد وزهران بين مناطق السراة وتهامة ونجد، حيث شكلوا ثلاثة أقسام رئيسية: القسم السروي الحجازي، الذي يشمل بطون القبيلتين في الباحة وبلجرشي والمندق والمخواة، والقسم التهامي، الذي يضم سكان أغوار السراة وسواحل تهامة، والقسم النجدي، الذي يمثل الامتداد البدوي للقبيلتين في السهول والصحاري الشرقية.
إن دراسة تاريخ غامد وزهران تكشف عن دورهما الجوهري في تشكيل الهوية العربية والإسلامية، إذ لم يكن وجودهما مجرد ذكرى في صفحات التاريخ، بل كانا ركيزة أساسية في بناء الأمة، حيث أسهموا في نشر الدعوة الإسلامية، وشاركوا في الفتوحات، وساهموا في الحفاظ على اللغة والثقافة العربية. واليوم، يواصل أبناؤهما حمل الراية، مساهمين في نهضة المملكة العربية السعودية، ليؤكدوا أن إرثهما ليس مجرد تاريخ، بل مجد متجدد لا يندثر