بين الموت والموهيتو: العتبة الدالة
في زمنٍ يُغرقنا بالوضوح القاتل والمباشرة المُفرطة، تأتي الدكتورة سمر مدني علاقي عبر مجموعتها القصصية “عزاء بطعم الموهيتو” لتستدعي الدهشة من مكمنها، وتُعيد للرمز مكانته في قول ما لا يُقال.
العنوان وحده يفتح بوابة إلى ثنائية فريدة: العزاء – طقوس الحزن والغياب، والموهيتو – مشروب الحياة والانتعاش. هذا التناقض ليس زينة لغوية، بل مفتاح قراءة يفضي إلى طبقات سردية متداخلة، حيث يُصبح الموت بداية جديدة، والحزن سخرية راقصة.
في هذا العنوان ما يشبه الصدمة الأولى: مزج الألم بالمتعة، والفقد بالاحتفال. وكأن الكاتبة تريد للقارئ أن يتذوق الحزن لا من فم المعجم، بل من فم الحياة ذاتها، حين تختلط المرارة بالنعناع، وتُقدّم الخسارة ككأس يُشرب على مهل.
منذ عتبة العنوان، تُعلن الكاتبة عن نيتها لكسر قيود المألوف والتجاوز الجريء للتوقعات. كيف يمكن أن يجتمع “العزاء”، بكل ما يكتنفه من حزن عميق ومراسم مُثقلة بالوجوم، مع “الموهيتو”، هذا المشروب المنعش الذي يرتبط بالاحتفال وبهجة الحياة؟ هذا التناقض الظاهري هو مفتاح الولوج إلى عالم المجموعة، حيث تتداخل المتناقضات وتنكشف هشاشة الثنائيات التقليدية.
وما يضفي على هذه المجموعة تميزًا فريدًا هو قدرتها الفائقة على تفجير المسلمات الراسخة. فعنوانها نفسه يجمع بين قطبين مُتباعدين: الموت والاحتفال، الأسى والانتعاش. وكأن الكاتبة تقول لنا بلسانٍ رمزي: حتى أشد أنواع الفقد يمكن أن يُروى بنكهةٍ مُنعشة، وإن كانت هذه النكهة مُشبّعة بمرارة الفقد العميق.
عادةً ما يكون وقت العزاء مُفعمًا بالعواطف الجياشة، لكن الأمر هنا يتخذ منحىً مختلفًا، وكأن ثمة تأكيدًا ضمنيًا لتلك المقولة الشعبية الموجعة: “ما راح يفقدك إلا مرقدك”. يا له من بؤس كامن في النفس الإنسانية حين تُعلّق آمالًا عريضة على عالم لا يعول عليه!
المبدع الحق، كما تجسده سمر علاقي في هذه المجموعة، يُعيد إلى أذهاننا حقائق وجودية بسيطة غفلنا عنها أو تجاهلناها عمدًا، وذلك بفنية حرفية تُوظّف الخيال والمفارقة بأقصى درجات الإتقان، لا لغاية ترفيهية، بل لكيلا ننسى جوهر وجودنا. وتلك هي الرسالة السامية للأدب العظيم.
أدب ما بعد الحكاية
في كثير من قصص المجموعة، لا تبدأ الحكاية من نقطة البداية التقليدية، بل مما بعدها. في القصة التي حملت اسم المجموعة، تقول الساردة:
“أعتقد أنني مت، أو شيء من هذا القبيل. لكنّي ما زلت أرى، وأشعر، وأفكر.”
الموت هنا ليس خاتمة، بل فضاء سردي بديل لاستكشاف تناسخ الأرواح كرمز للتيه الإنساني والتكرار العبثي للمعاناة. وتكتب سمر:
“الروح تتنقل من جسد إلى آخر، علّها تجد حظًا أقل بؤسًا، أو كذبةً أكثر قابلية للتصديق.”
بهذه التقنية، لا تعيد الكاتبة فقط ترتيب الزمن السردي، بل تفتح أفقًا تأويليًا واسعًا: فالموت هنا ليس حدثًا، بل حالة؛ والروح ليست كيانًا غيبيًا، بل وعيًا مشردًا يبحث عن مأوى. النص يتعاطى مع الحكاية بوصفها سؤالًا مفتوحًا لا إجابة له، مما يجعل القارئ شريكًا لا متلقّيا.
الرمز والعبث: السروال كآخر ما تبقى من الكرامة
الرمزية في المجموعة لا تكتفي بالتلميح، بل تصدم أحيانًا بسخريتها السوداء. في “الملك الفأر”، يتحول المستبد إلى فأر يعيش في بالوعة، لكنه يظل يُمجد من أتباعه:
“حتى وهو فأر، ظل يفرض سلطته بنبرة لم يشكك فيها أحد.”
وفي “إلا السروال!”، يصبح السروال الداخلي، الذي قد يبدو تفصيلاً هامشيًا، رمزًا للمقاومة والكرامة الأخيرة:
“أخذوا كل شيء، حتى اسمي. لكنهم لم يأخذوا سروالي، ولن يفعلوا.”
تُصوّر علاقي العالم كمساحة تتلاشى فيها القيم، ويتحوّل الرمز إلى مرآة تكشف عبثية المألوف. السروال هنا ليس قطعة قماش، بل حد الكرامة الأخير. حين يتنازل الفرد عن كل شيء ويحتفظ برمزٍ صغير، فهو لا يتشبث بالمادة، بل بما تمثّله: خصوصيته، إنسانيته، حقه في ألا يُجرّد من ذاته أمام سلطة لا تعرف الرحمة.
ضحك المهرج ونحيب الرموز
السخرية هنا ليست خفيفة الظل أو تهكمًا للترفيه، بل هي ما يمكن تسميته بـالضحك المؤلم. كأن النصوص تضحك كي لا تنهار، وتبتسم وهي تبكي. وقد وصف الناقد عليوي الذرعي* هذا الجو السردي بأنه “قصص تعيد ترتيب العلاقة بين الموت والحياة، حيث لا يُعرف الضحك من النحيب”.
قصة “زوجة إبليس” مثال على هذا. تخرج الشخصية من خلف الظل لتبوح:
“لم أطلب شيئًا، فقط أن يُذكر اسمي. لكن حتى اللعنات كانت تمر من فوقي وكأنني هواء شيطاني لا يستحق السخط.”
السخرية هنا تحمل طابعًا وجوديًا لا يُخفف من وطأته، بل يكشف عمق المفارقة التي تعيشها شخصيات وُجدت لتُنسى، وكتبت لتُستعاد.
لغة مشغولة بالرمز والدهشة
تميّزت المجموعة بلغة مشغولة، لا تسرف في الزخرفة، لكنها مشحونة بالإيحاء والمجاز.
تتعامل الكاتبة مع اللغة / المفردات (حصرا) رغم وفرتها وكأنها ندرة، بأسلوب “لا تسرف ولو كنت على نهر جار”، وهذا من مقتضيات الإبداع فالقليل كثير كما يقول الإنجليز Less is More ،والبلاغة في الإيجاز كما قالت العرب.
هذا الإدراك الواعي من الكاتبة جعل المجموعة تتميز بلغة مشغولة، لا تسرف في الزخرفة، لكنها مشحونة بالإيحاء والمجاز. تعتمد سمر مدني علاقي على الجملة القصيرة، الحادة، التي لا تُفصح عن كل شيء، بل تُراوغ القارئ وتُبقيه في حالة من الترقب. وقد وصف الناقد عليوي الذرعي لغتها بأنها “تستبطن المسكوت عنه من خلال بساطة مراوغة”، وهذا بالضبط ما يُضفي على نصوصها قوة هادئة، تهمس أكثر مما تصرخ
تفكيك الواقع وإعادة تركيبه
لا تقف نصوص “عزاء بطعم الموهيتو” على أرض واحدة. إنها تتنقل بين الواقع واللاواقع، بين الحكاية والحلم، بين القصة والمشهد التأملي. تستخدم الكاتبة تقنيات تيار الوعي، وتعدد الأصوات، وتلاعبًا بالزمن، مما يُخرج القصص من خطيتها التقليدية إلى فضاء من التشظي الفني. ومع ذلك، لا تفقد السيطرة، بل توجّه القارئ في متاهة لذيذة يعرف أنه لن يخرج منها كما دخل.
الشخصيات ليست نماذج جاهزة، بل كائنات هاربة من السرد الرسمي، تبحث عن حقيقتها في الهامش، في اللازمن، في اللقطة غير المتوقعة. وهنا تكمن قوة النص: في أنه لا يكتفي بعرض الألم، بل يُعيد تشكيله.
الغياب واللايقين: حضور ما لا يُرى
من بين أكثر الثيمات حضورًا في هذه المجموعة، تبرز ثيمة الغياب لا بوصفها فقدًا حسيًا فقط، بل كحالة وجودية ملتبسة. الغائب في قصص سمر علاقي لا يُراد له أن يعود، بل أن يُفهم. واللايقين لا يُقدَّم كخلل، بل كجوهر للتجربة الإنسانية. فالشخصيات لا تسير نحو نهاية واضحة، بل نحو عماء ناعم، لا طريق فيه إلا نحو الداخل.
إنّ غياب الأب، الحبيب، أو الذات القديمة ليس حدثًا مأساويًا بقدر ما هو تمزقٌ في نسيج الزمن السردي. لا أحد يعرف متى بدأت القصة ولا متى ستنتهي. وهذا ما يجعل القارئ مشدودًا إلى سؤال لا يُفصح عنه أحد، لكنه يُخيّم على كل سطر:
“ماذا لو لم يكن كل ما نعيشه يقينًا، بل مجازًا مؤقتًا لحقيقة لم تُكتب بعد؟”
في هذه المساحة من الشك، يلمع الأدب بوصفه الشكل الوحيد القادر على احتواء ما لا يُحتوى. وهذا ما تصنعه سمر في مجموعتها: تُفسح المجال للفراغات، وتُعطي للظلال صوتًا، وللغياب وزنًا لا يقل عن الحضور.
في الختام: قراءة لا تُنهي النص، بل تُوقظه
“عزاء بطعم الموهيتو” ليست مجموعة قصصية تقليدية، بل مزيج من النثر الفلسفي والسرد الرمزي والدراما النفسية. فيها ما يُشبه حلمًا طويلًا، لا تدري إن كان مريحًا أم مقلقًا، لكنها بالتأكيد لا تتركك كما كنت. إنّها تحفر في طبقات المعنى، وتترك رمادًا وسؤالًا بعد كل قصة.
ليس من السهل أن نقرأ مجموعة فنضحك ونبكي في الوقت ذاته، ونخرج منها خفيفي القلب، مثقلي الوعي. وهذه هي براعة سمر مدني علاقي: أن تجعل الرموز تضحك، بينما تترك الحكاية تبكي في الداخل… في صمت، لا يُرى، لكنه يُشعَر.
_____________
https://shorturl.at/vzKX9 *