المقالات

ثمانون ألفًا… فاتورة مؤجلة لطموح لم يكتمل

لم يكن يدري الأب الذي طالما ردّد على مسامع ابنه: “لا تجعل راتبي المحدود عذرًا، استثمر وقتك، وتعلّم، واصنع مستقبلك”، أن قطار الدراسات العليا لا ينتظر الطامحين، بل يُحجز مقاعده مسبقًا… لفئة محددة من الركّاب.

في مشهدٍ مؤثر، دار بين أب وابنه حوارٌ صعبٌ، بعدما علم الأب أن ابنه لم يتمكن من الالتحاق ببرنامج الدراسات العليا الذي لطالما حلم به. احتار الابن في مصارحة والده بالحقيقة، خشية أن يظن والده أنه تهاون أو أنه أقل من أقرانه. وبعد تردد، قال الابن:

“يا أبي، الجامعة قررت أن يكون البرنامج برسوم قدرها ثمانون ألف ريال”.

جاء رد الوالد، بعفوية شعبية تختصر الموقف:

“ثمانين ألف؟! تجيب لك عروستين يا ولدي… مو شهادة!”.

ضحكة مُرة، لكنها تُجسّد أزمة عميقة يعيشها آلاف الطموحين في وطننا، حيث أصبح الالتحاق بالدراسات العليا مرهونًا بالقدرة المالية لا الكفاءة العلمية.

إن ما تقوم به بعض إدارات الجامعات من مبالغة فادحة في رسوم برامج  الدبلوم والماجستير والدكتوراه، لا يمكن فهمه إلا في إطار تحويل التعليم إلى سلعة، وطموحات الطلاب إلى مشروع تجاري.

فهذه الرسوم الباهظة تقصي أبناء الطبقة المتوسطة، وتحصر القبول في طبقة الأثرياء أو القادرين على الدفع، وكأن الجامعات تُصنّف المجتمع تعليميًا إلى “أبناء التجار” و”البقية البسطاء”.

والمؤسف أن هذا يحدث في ظل دولة – أعزّها الله – جعلت التعليم مجانيًا، ووفّرت برامج الابتعاث الداخلي والخارجي والمنح بكل سخاء. فكيف نُفسر هذا التناقض بين فكر الدولة وفكر بعض مسؤولي الجامعات الذين حوّلوا طموح أبناء الوطن إلى مشروع تجاري بامتياز؟

إن المسؤولية الوطنية تحتم علينا عدم تحويل الدراسات العليا إلى بوابة تُغلق في وجوه المستحقين فقط لأن جيوبهم أقل امتلاءً.

من المفارقات المؤلمة أن بعض الجامعات ابتكرت ما يسمى ببرنامج “التأهيلي” لطلاب البكالوريوس، وقامت برفع نسب القبول وفرض رسوم دراسية بلغت 7000 ريال، في الوقت الذي قُبل فيه زملاؤهم الآخرون بنفس التخصصات مجانًا.

وبعد سنوات من الدراسة، أُعيد النظر في الرسوم وتم التراجع عنها، لكن ذلك تم بطريقتين متناقضتين:

وجه يُقال فيه إن القرار أُعيد تحقيق العدالة، ووجه آخر يكشف عن تخبط إداري واضح.

وما زاد الأمر تعقيدًا، أن بعض الخريجين لم تُعاد إليهم رسوم التأهيلي حتى الآن، مما يطرح علامات استفهام كبيرة حول الحوكمة المالية والعدالة المؤسسية في بعض الجامعات

ختامًا…

ثمانون ألفًا ليست مجرد رقم، بل هي فاصل حاد بين حلم وطموح، بين حق وفرصة.

فلنحمِ مستقبل أبنائنا وبناتنا من أن يصبح حلمهم الدراسي مجرد مشروع استثماري… أو ضحكة مُرّة في حوار بين أب وابنه..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى