المقالات

كم نحن بحاجة لسقراط !

قبل قرابة ٢٥٠٠ عام من يومنا هذا كان هنالك رجل قصير القامة ، جاحظ العينين ، حافي القدمين ، يدور بؤباء عينيه عندما يتحدث مع الناس في الشوارع يدعى سقراط ابن سوفرونيسكوس لايتردد الفرد في أثينا بوصفه بالقبح حينما يراه للوهلة الأولى !

وما أقسى أحكام النظرة الأولى ! هذا الرجل قبيح المنظر كان أبو الفلسفة الأول الذي صبغها بأجمل حلة وأبهى ثياب منطلقًا من مقولته الشهيرة ” أعرف نفسك بنفسك ! “. كانت هذه العبارة قضية سقراط على مدى سبعين عامًا بل إنه دفع حياته ثمنًا لهذه العبارة وغادر الدنيا راضيًا بعد محاكمة ظالمة لم يشأ سقراط أن يتحدث فيها أو يأذن بأحد للترافع عنه !

دعونا نتأمل هذا القبيح الجميل ! سقراط لم يكن إنسانًا عاديًا فقد جاء في فترة العصر الهلنستي الأثيني ووجد الناس منشغلين بقضايا الطبيعة والميتافيزيقا ( ماوراء الطبيعة) وذلك بدراسة النجوم والسماء والرياح والأفلاك والتنبؤ بالكسوف والخسوف والأمطار وربط كل هذه الظواهر بآلهة مثل آلهة الرياح وآلهة الجمال وآلهة الخير وآلهة الشر وكبير الآلهة المتصرف ذو المشيئة التامة ” زيوس” بل إن المجتمع الأثيني كان غارقًا حد الغرق في الإيمان بالخرافة والأساطير والملاحم والكهانة والسحر!

رأى سقراط أن مجتمعًا بهذه القيم لابد أن تعاد برمجته الفكرية والأخلاقية ليعي المعنى الحقيقي لكونه مجتمعًا إنسانيًا قبل كل شيء . حينها توجه سقراط للحديث مع عامة الناس في الطرقات والأزقة بحيث يبدأ معهم ” محاوراته” حول مواضيع ذات شأن اجتماعي عام ويومي بسيط! يلتزم سقراط في حواره مع الناس بالذوق والأخلاق الرفيعة ويناقش مواضيه حياتية كبرى كالخير والشر والعدل والحرية والفضيلة والمعرفة والمساواة والجمال والقبح وغيرها . ويترك سقراط لضيفه حرية الحديث لساعات ربما قبل أن يقيم عليه الحجة من جنس حديثه وحينها يكون الضيف في موضع ” الدهشة” التي نبعت من قوة استدلال سقراط وعبقريته في الاستنتاج ومنطقه الرصين الذي لايقبل سوى الإقرار والقبول! سقراط أراد أن يخبر الناس أن في الحياة كثيرًا من المسائل المهمة التي أُغفلت رغم محوريتها وقيمتها العالية.

على رأس هذه المسائل شكلت “المعرفة” الهمّ الأول لدى سقراط ! ولكن أي معرفة؟ إنها معرفة الإنسان بذاته أولا وقبل كل شيء! لذلك فإن خطيب روما وفيلسوفها الشهير ” شيشرون” أنصف سقراط بعبارته الخالدة حينما قال ” سقراط أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض! ” أي أنه صرف نظر العالم عن التأمل في ظواهر الطبيعة والكون والأجرام الى التفكر في أنفسهم وطبائعهم وأخلاقهم وتعاملاتهم. ولذلك فإن سقراط بهذا المعنى يعدّ أول من شرع في ” القطيعة الفلسفية المعرفية” مع من سبقوه من الحكماء السبعة أمثال: طاليس المالطي ، وهيرقليطس وغيرهما من العلمويين آنذاك !

سقراط آمن كثيرًا أن المعرفة والفضيلة متلازمان في حياة الناس ، ولهذا فإنه لايمكن أن تقودنا الفضيلة إلا إلى معرفة الحقيقة لأن الفضائل تهذب النفوس وترفع من رصيد الأخلاق وبهذا تنكشف لنا المعارف في حدود إمكاناتنا المتاحة ويزول السحر عن العالم ومثله الخرافة والجهل والعرافة والكهانة ومانحى نحو ذلك من التظليل والأباطيل.

سقراط كذلك قاد منهج الشك قبل أن يأتي به فيلسوف التنوير الأكبر ” رينيه ديكارت” بقرابة الفين عام ! فقد كانت الحوارات السقراطية مبنية على أن الأمور كلها محل شك حتى يثبت الدليل بطلان ذلك الشك! ولذلك فإنه لايوجد مايتمتع بحصانه ” الحتمية والحقيقة” لدى سقراط مالم يثبت ذلك بالدليل القاطع والحجة الدامغة! وبالرغم من أن سقراط لم يكن فيلسوفًا تجريبيا ولافيزيائيا أو رياضيًا كمن سبقوه أو تلوه إلا أن رصانة استدلالاته وقوة حجاجه جعلت ديكارت يصفه بأنه ” أول من أرسى دعائم الشك المنهجي” ومثله قال الفيلسوف الهولندي الضخم باروخ اسبينوزا ” ليتني أملك قدرة سقراط على المحاججة! “.

سقراط أطيب الناس تزوج من ” زنتيب” أشر الناس! وقد ورد بعض القصص التي تحكي أنه حينما سئل عن سبب زواجه منها كان رده: ” إن مروض الخيول بحاجة للتعامل مع أشرس الحيوانات في البداية! ” وهو رديظهر حكمة سقراط في فلسفة العيش بصرف النظر عن قبول عبارته بتلسكوب وحيثيات عصرنا الحاضر!

سقراط كان معلمًا يحبه تلاميذه، بل إن بعضهم كان على استعداد لدفع حياته فداء لسقراط ، وقدم له آخرون خططًا للهرب من سجنه بعد حبسه من قبل القضاء الأثيني تحت دعوى : سب الآلهة، وإفساد أخلاق شباب أثينا ودعوى ثالثه لم تعرض في دعوى المحكمة لسخافتها بيد أن القاضي طرحها وهي: طرح الأسئلة في الشوارع والطرقات على الناس !

كان سقراط مؤمنا بقيمة الدولة ، وأهمية احترام القانون، ومحورية العدالة، والاذعان للأحكام! ولذلك فإنه لم يستمع لنصيحة طلابه للهرب من السجن بعد أن حكم عليه بالإعدام وقال عبارته الشهيرة: ” إن هروبي من السجن لايعني هروب سقراط بجسده بل هروب كامل قضيته ومبادئه! “

تمدد سقراط على سريره الخشبي وطلب أن يكون إعدامه بتناول شراب الشكران السام لأن الإعدام شنقًا لايليق بمحبي الحكمة كما يقول! وغادر هذا العالم ليكون الفيلسوف االأول المؤسس للوجودية كما قال كيركيغارد ، والشك كما قال ديكارت ، والعقلانية كما وصفه سبينوزا، ومؤنسن الفلسفة كما وصفه جان بول سارتر وجليسته بمقهى باريس سيمون دي بوفوار !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى