الأسرة هي ملاذ الإنسان وسكنه وموطن محبته. فيها يجد دفء القرب وعذوبة المشاركة وزاد الرحلة في دروب الحياة. ولكن القرآن بمنهجه العميق في تربية القلوب وهداية النفوس لا يغفل عن الحقيقة الأشد مرارة: أن أكثر العلاقات حميمية قد تكون في بعض الأحوال من منابع الفتنة والابتلاء. في هذا السياق جاءت الآية الكريمة من سورة التغابن لتوقظ المؤمن من غفلته وتدعوه إلى فقه دقيق في موازنة العاطفة بالعقل والمودة بالحذر والرحمة بالحزم.
النص القرآني:
يقول الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
*فقه الابتلاء من داخل الدائرة القريبة*
العداوة هنا ليست عداوة السيف أو الطعن أو الإيذاء المادي بل قد تكون أشد من ذلك: عداوة التثبيط عن الحق أو الإغراء بالباطل أو الانشغال عن واجب الدعوة أو الوهن في طاعة الله أو حتى التعلق بهم بما يصرف المؤمن عن مهمته الكبرى. يقول المفسرون: كان بعض الصحابة يريد الهجرة أو القيام بطاعة قد يصحبها مشقة فتثبطه زوجته أو أولاده خوفاً عليه فيؤخر ويضعف ويؤثر السلامة فتكون العاطفة هنا عدواً خفياً.
*الحذر لا يعني القطيعة .. بل البصيرة*
التحذير القرآني هنا لا يأمر بالكراهية أو الجفاء وإنما بالحذر الواعي أن لا تجعل العاطفة حاجزاً عن الطاعة ولا القرب ذريعة للتهاون في الحقوق والواجبات ولا الحب مبرراً للضعف في المبدأ. إنّه نداء للتوازن: فلتكن العلاقة قائمة على المودة ولكن محكومة بالبصيرة.
*العفو والصفح .. وذروة الرحمة*
رغم وصفهم بالعداوة إلا أن الله يختم الآية بآفاق سامية من الرحمة: {وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا}. إنه نداء إلى التسامي والارتفاع فوق جراح النفس خصوصاً حين تكون تلك العداوة نابعة من الجهل أو الخوف أو ضعف الإيمان. فكم من زوجة منعت زوجها عن طاعة ثم ندمت وكم من ولد أرهق والده ثم تاب. فالعفو هنا ليس ضعفاً بل حكمة ورحمة وأمل في إصلاح المستقبل.
*تناغم بين العدل والرحمة*
هذه الآية تمثل لوحة قرآنية متوازنة تجمع بين الحذر الواجب والعفو المطلوب فلا طغيان في العاطفة ولا جفاء في التعامل بل فقه واقعي وعميق لمكونات النفس البشرية والعلاقات الاجتماعية.
وفي الختام .. تعلمنا هذه الآية أن الابتلاء قد يكون في أقرب الناس إلينا وأن علينا أن نوازن بين الحذر والصفح بين الالتزام والمودة بين الطاعة لله والوفاء للأهل. وأن على المؤمن أن يكون بصيراً رؤوفاً حازماً حكيماً يحمل قلباً يحب ويصفح وعقلاً يزن ويحذر .. وهمة لا تصرفه عنها فتنة القرب ولا زينة العاطفة.
{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .. بها يختم الله الآية وكأنه يقول لنا: إن سامحتم غفرت لكم كما غفرتم .. وإن رحمتم رحمتكم كما رحمتم.
• عضو هيئة تدريس – جامعة المؤسس