لطالما ارتبطت عملية تناول الطعام بآداب وأخلاقيات دقيقة على مر العصور واختلاف الثقافات. في بعض البيئات، يُمنع الحديث على المائدة احترامًا للنعمة، وفي ثقافات أخرى يُشجَّع الكلام بل ويمتزج بالدعاء الجماعي شكرًا لوجود الطعام. أما العرب قديمًا، فكانوا يرون في الأكل خارج المنزل خرقًا لمروءة الأسياد، واستنكر بعضهم على النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، معتبرين أن هذه الأفعال لا تليق بمقام رفيع، رغم أنها كانت جزءًا من بساطته وتواضعه صلى الله عليه وسلم كإنسان ورسول.
لكن هذا المشهد تغيّر تمامًا؛ فلم نعد فقط نتقبل الكلام أثناء الأكل، بل أصبح من الطبيعي أن نُجري مكالمات هاتفية أو مرئية ونحن نتناول الطعام، بل ونشارك وجباتنا عبر بث مباشر، حتى أصبحت القضمات والبلعات لحظات مسموعة، بل ومطلوبة، فيما يُعرف الآن بأحد أبرز صيحات الإعلام الرقمي: “الموكبانغ” (Mukbang)، التي بدأت في كوريا الجنوبية وانتشرت عالميًا، حيث يُشاهد شخص يتناول كميات كبيرة من الطعام أمام الكاميرا، غالبًا بصوت واضح وتفاعل مباشر مع الجمهور. لم تعد المتعة مرتبطة بالأكل ذاته، بل بطريقة التقديم، وسماع الصوت، ومتابعة التفاعل اللحظي بين القضم والردود. واللافت أن المشاهد قد لا يكون جائعًا، لكنه يجد متعة في المشاهدة، وكأنها تجربة حسية تُشبع فضوله أو حاجته للتواصل.
وعلى الطرف الآخر، هناك من يعيش معاناة يومية أكثر واقعية. فالأشخاص ذوو الأذن الحساسة جدًا، وتحديدًا لأصوات تناول الطعام، وهي الحالة المعروفة بـ”الميسوفونيا” (Misophonia)، لم يجدوا صعوبة في تقبُّل مشاهد الموكبانغ لأنهم لم ولن يفكروا في مشاهدتها أصلًا. بل إن معاناتهم مع هذا النوع من الأصوات تكمن في الجلوس حول مائدة طعام عائلية عادية. تخيّل أن صوت مضغ بسيط من أخيك أو أحد والديك يمكن أن يثير فيك انزعاجًا شديدًا، وربما شعورًا بالعجز أو الغضب لا تفسير له. الأمر ليس مبالغة، بل استجابة حسية خارجة عن الإرادة. هؤلاء الأشخاص يُضطرون أحيانًا لتناول طعامهم بمفردهم، أو ارتداء سماعات عازلة، فقط ليحظوا بلقمة هادئة.
المشكلة تتضخم حين يكون مصدر الصوت أحد كبار السن الذين، بسبب التقدم في العمر أو استخدام أطقم الأسنان أو ضعف السمع، يصدرون أصواتًا لا إرادية أثناء الأكل. أو حين يكون الشخص المقابل شابًا منهكًا ذهنيًا من العمل أو الدراسة، يأكل بسرعة دون وعي، فتخرج منه أصوات غير مقصودة. كلاهما لا يقصد الإزعاج، لكن النتيجة واحدة عند من يعاني من الميسوفونيا: انفعال داخلي مؤلم، يصعب شرحه أو التحكم فيه.
من المهم أن نُميّز أن ليس كل صوت يصدر أثناء تناول الطعام يُعتبر دليلًا على غياب الذوق. ففي بعض الحالات، يكون الصوت جزءًا من التذوق نفسه. على سبيل المثال، في تقييم القهوة أو الشاي، يقوم المحترفون بشفط المشروب بصوت واضح لنشره على اللسان وتقييم النكهة بدقة. كما أن بعض الثقافات ترى في إصدار صوت خفيف أثناء تناول الطعام علامة على الاستمتاع، أو حتى الاحترام للمضيف.
في النهاية، يتبيّن أن إصدار الأصوات أثناء الأكل ليس مسألة أخلاقية بقدر ما هو تقاطع معقّد بين السياق، والثقافة، والحالة النفسية أو الصحية. ما يراه البعض عاديًا أو ممتعًا، قد يراه آخرون مزعجًا أو منفّرًا.
ولنتذكر أن الطعام وتناوله كان وما زال أكثر من مجرد وجبة… هو قصة، وطقس، وتجربة بشرية متعددة الطبقات.
• أستاذ التغذية والعلوم النفسية المساعد
جامعة الملك عبدالعزيز
@duaa_salehض