المقالات

السعودية والتنافسية العالمية: من الطموح إلى التمكين

بينما تتسابق الاقتصادات الكبرى لحجز موقعها في مستقبل يتشكّل كل يوم، تضع المملكة العربية السعودية بصمتها بثقة على خارطة التنافسية العالمية، مستندة إلى رؤية واضحة، ومشاريع جبّارة، وتحولات شاملة تمسّ كل جوانب الحياة. لم تعد التنافسية ترفًا مؤسسيًا أو تصنيفًا دوليًا نفاخر به، بل أصبحت معيارًا يوميًا نقيس به جودة الإدارة، وكفاءة الأداء، وفعالية استثمار الموارد.

تُعرف التنافسية العالمية بأنها قدرة الدولة على تحقيق مستويات عالية من الإنتاجية تُمكّنها من رفع مستوى المعيشة لمواطنيها، والحفاظ على نمو اقتصادي مستدام في بيئة عالمية سريعة التغير. ويتم قياس التنافسية من خلال تقارير تصدرها جهات عالمية مرموقة، أبرزها المنتدى الاقتصادي العالمي (WEF) عبر “تقرير التنافسية العالمية” الذي يقيس أداء الدول في 12 ركيزة تشمل المؤسسات، والبنية التحتية، والتعليم، والصحة، والابتكار، وكفاءة السوق، وغيرها، والمعهد الدولي للتنمية الإدارية (IMD) عبر “الكتاب السنوي للتنافسية العالمية” الذي يركّز على الأداء الاقتصادي، والكفاءة الحكومية، وكفاءة الأعمال، والبنية التحتية، بالإضافة إلى البنك الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).

أما محليًا، فتقود الهيئة الوطنية للتقويم والاعتماد والتنافسية (NCC) هذا الحراك بدعم من وزارة الاقتصاد والتخطيط، ووزارة الاستثمار، والبنك المركزي السعودي، وهيئة السوق المالية، وهيئة البيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا)، ومركز أداء. وتعمل هذه الجهات بتناغم لتعزيز تموضع المملكة عالميًا.

في تقرير التنافسية العالمي الصادر عن IMD لعام 2024، قفزت المملكة إلى المرتبة 16 من أصل 67 دولة، واحتلت المركز الرابع بين دول مجموعة العشرين، متفوقة بذلك على اقتصادات كبرى مثل كوريا الجنوبية وإيطاليا. كما جاءت الأولى عالميًا في مؤشر “تفهم الحكومة للحاجة إلى الإصلاحات الاقتصادية” و”نمو التوظيف طويل المدى”، والثانية عالميًا في “رسملة السوق المالية”.

هذه الإنجازات لم تكن محض أرقام، بل نتاج حراك إصلاحي تقوده رؤية السعودية 2030. وقد جاء تصريح صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود – ولي العهد رئيس مجلس الوزراء – خلال إطلاق رؤية السعودية 2030 في عام 2016، كمرتكز لهذا التحول الكبير، حيث قال:

“طموحنا أن نبني وطنًا أكثر ازدهارًا، يجد فيه كل مواطن ما يتمناه. ولن نتوقف حتى نصل إلى القمة، حيث تستحق السعودية أن تكون.”
هذا التصريح لم يعد مجرد وعد، بل تجسّد في مشاريع كبرى مثل نيوم، وذا لاين، والقدية، والبحر الأحمر، وفي مبادرات استثمارية ضخمة تمكّن القطاع الخاص، وتفتح أبواب العالم أمام السوق السعودي.

في البنية التحتية، وصلت تغطية شبكة الألياف البصرية لأكثر من 97% من المناطق الحضرية، وتم توسيع نطاق الجيل الخامس، في حين تجاوز الاستثمار في مشاريع النقل والطاقة المستدامة مئات المليارات، أبرزها مدينة نيوم التي تُبنى من الصفر لتكون رمزًا عالميًا للابتكار والاستدامة. كما تم إدراج مشروع “ذا لاين” ضمن أبرز مشروعات المدن الذكية عالميًا، بما يحمله من تصور حضري مبتكر قائم على الاستدامة والذكاء الصناعي.

اقتصاديًا، حافظت المملكة على استقرار كلي بارز، إذ بلغ التضخم 1.6% في عام 2024، مع فائض في الميزانية تجاوز 103 مليارات ريال، واحتياطيات نقدية تفوق 450 مليار دولار. في سوق العمل، ارتفع معدل توظيف السعوديين بشكل ملحوظ بفضل مبادرات مثل “نطاقات المطور”، و”تمهير”، ومنصة “قوى”، حتى بلغت المملكة المرتبة الأولى عالميًا في مؤشر “نمو التوظيف طويل المدى”. وبرزت نتائج هذا التمكين في زيادة نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل إلى 35.3% بنهاية عام 2023، مقارنة بـ 19.4% في عام 2017، مع دخولها قطاعات جديدة كالهندسة، والقانون، والقطاع العسكري.

أما في الابتكار، فحققت المملكة المرتبة الأولى عالميًا في الأمن السيبراني وفق تصنيف الاتحاد الدولي للاتصالات، والثالثة في مؤشر ريادة الأعمال المبكرة حسب تقرير GEM، كما عززت دور كاكست، وجامعة الملك عبدالله، وجامعة نيوم في البحث والتطوير. وتوِّج ذلك بإنشاء صندوق الاستثمارات العامة لمركز “سير” لإنتاج السيارات الكهربائية، وإطلاق مدينة “أوكساجون” الصناعية الذكية.

في القطاع المالي، تم فتح السوق بنسبة 100% أمام الاستثمارات الأجنبية، وتجاوز عدد الشركات الناشئة الممولة 1,300 شركة، بإجمالي استثمارات بلغت 4.4 مليارات ريال. كما نجحت المملكة في تعزيز التمويل الذكي، وتطوير منظومة البنوك الرقمية والخدمات المالية التقنية (FinTech)، وكانت الأولى إقليميًا من حيث جذب رأس المال الجريء لعام 2023 بقيمة تجاوزت 3.7 مليارات ريال.

ولم تغب التنمية المستدامة عن مشهد التنافسية، فمبادرات “السعودية الخضراء” و”الشرق الأوسط الأخضر”، ومشاريع الطاقة المتجددة، وضعت المملكة في صدارة الدول المهتمة بالمناخ والبيئة، إلى جانب مشاركتها الفاعلة في مؤتمرات دولية كقمة المناخ COP وفعاليات الأمم المتحدة. كما أطلقت المملكة مشروعات رائدة في الطاقة النظيفة مثل “مشروع سكاكا للطاقة الشمسية”، و”دومة الجندل لطاقة الرياح”، إضافة إلى مشروع الهيدروجين الأخضر في نيوم بقدرة إنتاجية تصل إلى 4 غيغاواط.

الزخم العالمي الذي تعيشه المملكة عززته استضافتها لأحداث عالمية بارزة مثل قمة G20، ومؤتمر LEAP، ومبادرة مستقبل الاستثمار (FII)، وغيرها، ما يعكس الثقة الدولية في قدرتها على قيادة الملفات العالمية. وتفوقت المملكة على فرنسا وكندا في استقرار الاقتصاد الكلي، وعلى اليابان في مرونة الأعمال، وعلى دول أوروبية في جاهزية التحول الرقمي. كما ارتفعت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى أكثر من 30 مليار ريال في عام 2023، واستقبلت أكثر من 27 مليون زائر دولي، ما جعلها تتفوق سياحيًا على دول مثل إيطاليا وتايلاند.

ورغم أن التنافسية تُقاس بالمؤشرات، إلا أن أثرها الحقيقي يُلمس في حياة الناس: في فرصة عمل، أو خدمة ذكية، أو مدينة خضراء، أو استثمار واعد. المواطن اليوم هو المستفيد الأول من كل هذا الحراك، وقد أصبحت بيئة الأعمال أكثر مرونة، والتعليم أكثر تطورًا، والخدمات الحكومية أكثر كفاءة. ومن الأمثلة البارزة على التحول الرقمي، احتلال المملكة المرتبة 31 عالميًا في مؤشر الحكومة الرقمية، والثالثة عالميًا في مؤشر نضج الخدمات الحكومية، مدعومة بمنصات مثل “أبشر”، و”توكلنا”، و”صحتي” التي تقدم آلاف الخدمات إلكترونيًا.

في النهاية، لا تسعى السعودية فقط إلى تحسين ترتيبها في تقارير دولية، بل تعمل على ترسيخ نموذجها الخاص في التقدم؛ نموذج يستمد طاقته من قيادة طموحة، ومواطن مشارك، ومؤسسات تتجاوز التوقعات. ورؤية 2030 ليست نهاية طريق، بل بداية لطريق أطول نحو القمة التي تستحقها السعودية عن جدارة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى